كتاب التفسير والتأويل في القرآن -الفصل الثالث التأويل في كلام الرسول وأصحابه (المبحث الأوّل: التأويل في الحديث النبوي)

كتاب التفسير والتأويل في القرآن -الفصل الثالث التأويل في كلام الرسول وأصحابه (المبحث الأوّل: التأويل في الحديث النبوي)
103 0

الوصف

                                                   الفصل الثالث التأويل في كلام الرسول وأصحابه 

                                                    (المبحث الأوّل: التأويل في الحديث النبوي)

ورد التأويل في حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان أحيانا يرد بمعنى تعبير الرؤيا وتأويلها، وأحيانا بمعنى الفهم والتفسير.

ونورد فيما يلي أمثلة من الأحاديث علي كل واحد من المعنيين:

[المطلب الأول: تأويل الرؤيا وتعبيرها]

خصّص علماء الحديث في مصنفاتهم كتبا خاصة لتأويل الرؤيا وتعبيرها.

ففي صحيح البخاري كتاب «تفسير الرؤيا» وفي صحيح مسلّم كتاب «الرؤيا».

والباب الثالث من كتاب «الرؤيا» في صحيح مسلّم، أطلق عليه الإمام النووي شارح الصحيح اسم: «باب تأويل الرؤيا».

ونقرأ في هذا الباب هذه الأحاديث التي ورد فيها مصطلح التأويل:

١ - قال أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:- رأيت ذات ليلة فيما يري النائم، كأنا في دار عقبة بن رافع، فأتينا برطب من رطب ابن طاب.

فأوّلت الرفعة لنا في الدنيا، والعاقبة في الآخرة، وأنّ ديننا قد طاب.

رؤيا الرسول عليه الصلاة والسلام أنه كان مع بعض أصحابه في دار رجل اسمه «عقبة بن رافع»، فتفاءل بذلك، وأكل من تمر ابن طاب فتفاءل بذلك.

وأوّل هذه الرؤيا بأنها تشير إلي مبشرات قادمة. «رافع» يشير إلي الرفعة في الدنيا. و «عقبة» يشير إلي حسن العاقبة في الآخرة، وتمر «ابن طاب» يشير إلي طيبة واستقرار وانتصار الاسلام.

وهذا ما حصل في الدنيا، وتحقق تأويل الرسول عليه السلام لهذه الرؤيا، فقد طاب الاسلام وكمل واستقر، ونال المسلمون الرفعة في الدنيا.

٢ - قال ابن عباس رضي الله عنهما: قدم مسيلمة الكذاب علي عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة. فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته.

فقدمها في بشر كثير من قومه. فأقبل إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومعه ثابت بن قيس بن شماس، وفي يد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قطعة جريدة، حتى وقف علي مسيلمة في أصحابه.

فقال له: (لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولكن أتعدّي أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنّك الله، وإني لأراك الذي أريت فيك ما أريت وهذا ثابت يجيبك عني). ثم انصرف عنه. قال ابن عباس: فسألت عن قول النبي صلّى الله عليه وسلّم (إنك أري الذي أريت فيك ما رأيت)، فأخبرني أبو هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: (بينا أنا نائم- رأيت في يدي سوارين من ذهب، فأهمني شأنهما. فأوحي إليّ في المنام أن أنفخهما، فنفختهما فطارا فأوّلتهما كذابين يخرجان من بعدي. فكان أحدهما العنسيّ، صاحب صنعاء، والآخر مسيلمة، صاحب اليمامة) كانت رؤيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سوارين من ذهب في يديه، فلما نفخهما طارا وكان تأويلها ظهور كذابين يدّعيان النبوة: الأسود العنسي في اليمن، ومسيلمة الكذاب في اليمامة.

وقد تحققت رؤياه فعلا، وتأويلها: حدوثها في عالم الواقع، فقد خرج الكذابان العنسي ومسيلمة، وكانا من أخطر مدّعي النبوة علي المسلمين، وبذل المسلمون جهودا كبيرة للقضاء عليهما، وتمكّنوا أخيرا من التغلب عليهما وقتلهما، وكان قتلهما هو تأويل طيران السوارين لما نفخهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المنام.

ونقف مع هذه الأحاديث التي أوردها الامام مسلّم في كتاب «فضائل الصحابة» والتي تتحدث عن تأويل الرسول عليه الصلاة والسلام لرؤيا رآها بشأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

١ - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (بينا أنا نائم، رأيت الناس يعرضون وعليهم قمص. منها ما يبلغ الثديّ، ومنها ما يبلغ دون ذلك، ومرّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجرّه. قالوا: ماذا أوّلت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين!) رأي الرسول صلّى الله عليه وسلّم في منامه الناس يمرّون أمامه، وكلّ منهم يلبس قميصا. وهذه القمصان متفاوتة في المقاس، منها الطويل ومنها القصير، أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد كان قميصه طويلا يجرّه. وتأويل هذه الرؤيا أن القمصان هي الدين، ومعلوم أنّ التزام المسلمين بأحكام الدين الاسلامي متفاوت، منهم من يكون التزامه وثيقا، ومنهم من يكون التزامه ضعيفا. أما التزام عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأحكام الدين فهو وثيق متين، ولهذا كان قميصه في المنام طويلا.

وقد تحققت رؤيا الرسول عليه الصلاة والسلام عمليا فيما بعد، فصار عمر أميرا للمؤمنين. وترك بعد وفاته آثاره وسننه، وصار قدوة للمسلمين من بعده.

٢ - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: (بينا أنا نائم، إذ رأيت قدحا أتيت به، فيه لبن. فشربت منه، حتى إني لأري الريّ يجري في أظفاري. ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب. قالوا: فما أوّلت ذلك يا رسول الله؟ قال: العلم). اللّبن في هذه الرؤيا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو العلم، وهذا هو تأويل الرسول عليه السلام لهذه الرؤيا.

وقد تحققت رؤياه عليه السلام في عالم الواقع، فشربه اللبن في الرؤيا، وارتواؤه منه، تأويله الواقعيّ تمكنه من العلم، ورسوخه فيه، وهذا متحقق في سيرته وشخصيته عليه الصلاة والسلام.

وتأويل إعطائه فضله من اللبن لعمر في عالم الواقع، هو تمكّن عمر من العلم ورسوخه فيه، وهذا متحقق في شخصيته رضي الله عنه.

وممّا أوّله وعبّره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من رؤيا، ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:

 (رأيت امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى نزلت بمهيعة فتأوّلتها أنّ وباء المدينة نقل إلي مهيعة، وهي الجحفة).

رؤيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المنام: رأي امرأة سوداء ثائرة الرأس، خرجت من المدينة، وسارت في الطريق، وذهبت إلي الجحفة، واستقرّت فيها.

والجحفة لها اسم آخر هو «مهيعة»، وهي في الطريق بين المدينة ومكة. وتأويل هذه الرؤيا الواقعيّ أن الحمّي والمرض والوباء قد أخرجه الله من المدينة إلي الجحفة، فتأويل الرؤيا هو تحقيقها الماديّ في عالم الواقع.

قال ابن حجر في فتح الباري: «تقدّم في آخر فضل المدينة، في آخر كتاب الحج من حديث عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: اللهمّ حبّب إلينا المدينة. وانقل حمّاها إلي الجحفة قالت عائشة: وقدمنا المدينة، وهي أوبأ أرض الله».

«قال المهلب: هذه الرؤيا من الرؤيا المعبرة، وهي مما ضرب به المثل، ووجه التمثيل أنه شقّ من اسم «السوداء» السّوء والدّاء، فتأوّل خروجها بما جمع من اسمها. وقيل: ثوران الرأس يؤول بالحمي، لأنها تثير البدن بالاقشعرار»  نكتفي بهذه الأحاديث الخمسة الصحيحة، التي أشارت إلي رؤي رآها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في منامه- ورؤيا الأنبياء حق- كما أشارت إلي تأويل وتعبير الرسول عليه الصلاة والسلام لهذه الرؤي الخمسة.

إنّ تأويله لهذه الرؤي هو ملاحظته لبعدها الواقعي، وتسجيله لمدلولها العملي، وبيانه لحقيقتها المادية. وهكذا يكون كلّ تأويل وتعبير للرؤي.

والملاحظ أنّ حقيقة تلك الرؤي المادية قد وقعت بالفعل، وانطبقت علي الواقع، كما أوّلها وعبّرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

المطلب الثاني: التأويل بمعنى الفهم والتفسير

ورد التأويل بالمعنى الثاني- الذي سبق أن قرّرناه أثناء حديثنا عن آية المحكم والمتشابه، وفي سورة آل عمران- وهو: التفسير والبيان والفهم، في بعض أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

وهو في هذه الأحاديث موجّه لتأويل القرآن، أي: فهمه وتفسيره وبيان معناه.

من هذه الأحاديث:

١ - روي الإمام أحمد عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: هلاك أمتي في الكتاب واللبن! قالوا: يا رسول الله: وما الكتاب واللّبن؟ قال: يتعلّمون القرآن، فيتأوّلونه علي غير ما أنزل الله. ويحبون اللبن، فيدعون الجماعات والجمع، ويبدون! إنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم يذمّ هذا الصنف من الناس، وهم الذين يتعلمون القرآن، ويدرسونه، ولكنهم لا يفهمونه فهما صائبا، ولا يتأوّلونه تأوّلا صحيحا، وإنما يفهمونه فهما خاطئا، ويفسّرونه تفسيرا مغلوطا، ويؤوّلونه تأويلا مردودا باطلا، علي غير ما أنزل الله، وبذلك يحرّفون بهذا التأويل الباطل الآيات عن معناها الصحيح، إلي معنى آخر مرفوض، لا تدلّ عليه، ولا تشير إليه.

وبينما ذمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المتأولين السابقين، لأنهم تأوّلوا القرآن علي غير ما أنزل الله، فقد صوّب المتأولين من الصحابة تأويلات خاطئة، وقدّم لهم الفهم والتأويل الصحيح، ولم يذمّهم لحسن نيتهم في التأويل غير السديد، وأعذرهم، ثم صوّب لهم فهمهم وتأويلهم.

قال الإمام ابن حجر في ضابط التأويل المردود الذي يعذر صاحبه ولا يذمّ: «قال العلماء: كلّ متأوّل معذور بتأويله ليس بآثم، إذا كان تأويله سائغا في لسان العرب، وكان له وجه في العلم».

وقد أورد الإمام البخاري أربعة أحاديث لذلك، في كتاب «استتابة المرتدين المعاندين وقتالهم»، وأفرد لها بابا خاصا، أطلق عليه اسم: «باب ما جاء في المتأولين».

الحديث الأول: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت هشام ابن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها علي حروف كثيرة، لم يقرئنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كذلك، فكدت أساوره في الصلاة، فانتظرته حتى سلّم، ثم لببته بردائه- أو بردائي- فقلت: من أقرأك هذه السورة؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

قلت له: كذبت. فو الله إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها. فانطلقت أقوده إلي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: يا رسول الله: إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان علي حروف لم تقرئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أرسله يا عمر. اقرأ يا هشام.

فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرؤها. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هكذا أنزلت. ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اقرأ يا عمر. فقرأت، فقال: هكذا أنزلت! ثم قال: إن هذا القرآن أنزل علي سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسّر منه» قال ابن حجر في شرح الحديث: «ومناسبته للترجمة من جهة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يؤاخذ عمر بتكذيب هشام، ولا بكونه لبه بردائه، وأراد الإيقاع به، بل صدّق هشاما فيما نقله، وعذر عمر في إنكاره، ولم يزده علي بيان الحجة في جواز القراءتين» إنّ عمر رضي الله عنه قال ما قال في حقّ هشام متأوّلا، وقد عذره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علي خطأ تأويله لحسن نيته، ثم صوّب له تأويله، وقدّم له الصواب في المسألة.

الحديث الثاني: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ. شق ذلك علي أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ليس كما تظنّون. إنما هو كما قال لقمان لابنه يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ قال ابن حجر: «ووجه دخوله في الترجمة من جهة أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يؤاخذ الصحابة بحملهم الظلم في الآية علي عمومه، حتى يتناول كلّ معصية، بل عذرهم لأنه ظاهر في التأويل، ثم بيّن لهم المراد بما رفع الإشكال».

لقد أوّل بعض الصحابة الآية علي غير وجهها، وفهموها فهما غير صائب، واعتبروا الظلم فيها شاملا لكلّ معصية، وهذا تأويل خاطئ منهم، لكنه تأويل باجتهاد، فلم يؤاخذهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم علي ذلك، بل عذرهم، ثم صحح لهم تأويلهم وصوب لهم فهمهم.

وهكذا الحديثان الآخران في الباب- الثالث والرابع- ففي الحديث الثالث أخطأ بعض الصحابة فهم وتأويل موقف أحدهم، وهو مالك بن الدخشن، واعتبروه منافقا بسبب ذلك الموقف، فصوّب لهم رسول صلّى الله عليه وسلّم تأويلهم، واعتبره مسلما صادقا، وطالبهم بإجراء أحكام الاسلام علي الظاهر، ومع ذلك عذرهم في فهمهم، ولم يؤاخذهم بتأويلهم.

وفي الحديث الرابع بيان خطأ حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه في فهمه وتأويله حيث كتب كتابا إلي أهله في مكة، يخبرهم بتوجّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لفتح مكة، وذلك ليس إذاعة منه لسرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإنما ليقدم خدمة لأهله في مكة. وقد صوّب له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهمه وتأويله، ولم يؤاخذه به إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد رفض تأويلات غير سديدة لبعض المسلمين، وبيّن لهم المعنى الصائب والموقف الصحيح، ولكنه عذرهم لأنّ ظاهر النص أو الحادثة قد يوحي بذلك التأويل الذي فهموه.

ومن هذه الأمثلة نري أنّ التأويل في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد ورد بمعنى الفهم والتفسير والبيان، سواء كان هذا صوابا أم خطأ.

[المطلب الثالث: كيف كان رسول الله يتأول القرآن؟]

للصحابة بعض الروايات في تأويل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لبعض آيات القرآن، يوضحون فيها كيفية تأويله لها.

من هذه الروايات:

١ - روي البخاريّ عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: ركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علي حمار، علي قطيفة فدكيّة، وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة، قبل وقعة بدر.

فمرّ بمجلس فيه عبد الله بن أبيّ بن سلول، وذلك قبل أن يسلّم عبد الله بن أبيّ، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفي المجلس عبد الله بن رواحة.

فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمّر عبد الله بن أبيّ أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبّروا علينا.

فسلّم عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم وقف فنزل، فدعاهم إلي الله، وقرأ عليهم القرآن. فقال عبد الله بن أبيّ: أيها المرء، إنه لا أحسن مما تقول، إن كان حقا فلا تؤذينا به في مجلسنا، ارجع إلي رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه.

فقال عبد الله بن رواحة: بلي يا رسول الله، فاغشنا به في مجلسنا فإنا نحبّ ذلك! فاستبّ المسلمون والمشركون واليهود، حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يخفّضهم حتى سكنوا!

ثم ركب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دابته، فسار، حتى دخل علي سعد بن عبادة، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: (يا سعد: ألم تسمع ما قال أبو حباب- يريد عبد الله ابن أبيّ- قال: كذا وكذا).

قال سعد: يا رسول الله: اعف عنه واصفح عنه. فو الذي أنزل عليك الكتاب، لقد جاء الله بالحقّ الذي أنزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة علي أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة، فلما أبي الله ذلك بالحق الذي أعطاك، شرق بذلك، فذلك فعل به ما رأيت! فعفا عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب، كما أمرهم الله، ويصطبرون علي الأذي. قال الله عز وجل: ولَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ومِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذيً كَثِيراً . وقال الله: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً، حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ، فَاعْفُوا واصْفَحُوا حَتَّي يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يتأوّل العفو ما أمره الله به، حتى أذن الله فيهم.

فلما غزا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدرا، وقتل الله به صناديد كفار قريش، قال ابن أبي بن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجّه، فبايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علي الإسلام، وأسلموا.» الشاهد في الحديث ذكر- رواية- أسامة بن زيد- رضي الله عنه آية من كتاب الله، أمر الله فيها الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بالعفو والصفح عن أهل الكتاب والمشركين، حتى يأتي الله بأمره، ويأمرهم بقتال الكافرين.

وقول أسامة بن زيد رضي الله عنه بعد ذكر الآية: وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يتأوّل العفو ما أمره الله به، حتى أذن الله فيهم.

فكيف كان تأويل رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ لقد كان تأويله فيهم هو التطبيق العمليّ للآية التي أمرته بالعفو والصفح، والتنفيذ الفعليّ لمضمونها، حيث كان يعفو ويصفح فعلا، حتى أنزل الله آيات بعد ذلك تأذن له بقتالهم.

إن تأويله الفعليّ للآية ليس مجرد فهمها وتفسيرها نظريا، ولكنه تحقيقها في عالم الواقع، وبيان مآلها العملي والواقعي.

٢ - روي الامام البخاري في تفسير سورة النصر عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهمّ ربّنا وبحمدك. اللهمّ اغفر لي، يتأوّل القرآن.

وفي رواية أخرى عنها قالت: «ما صلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم صلاة، بعد أن نزلت عليه إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والْفَتْحُ إلا يقول فيها: سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي». إنّ ما ترويه عائشة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كان تأويلا منه للقرآن.

وتأويله للقرآن كان تأويلا عمليا، وتنفيذا وتطبيقا للأمر الذي أمره الله به. أنزل الله عليه سورة النصر، وأمره فيها بتسبيح الله وحمده واستغفاره: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والْفَتْحُ، ورَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ، إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً.

فكيف نفذ الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الأوامر الربانية: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ؟ لقد جعلها في صلاته، ونفذها عمليا، فكان كثيرا ما يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم وبحمدك، وهذا تنفيذ لقوله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ. ويقول: اللهم اغفر لي، وهذا تنفيذ لقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْهُ.

وعلقت عائشة رضي الله عنها علي هذا التطبيق العملي للأوامر الربانية النظرية، بأنه في هذا الفعل: يتأول القرآن.

وقال الإمام ابن حجر في شرحه للحديث: «ومعنى قوله: يتأول القرآن: يجعل ما أمر به من التسبيح والتحميد والاستغفار في أشرف الأوقات والأحوال» تأويل الرسول صلّى الله عليه وسلّم للآية: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ ليس مجرد فهم وتفسير وبيان لها، ولكنه تطبيق وتنفيذ.

وهذا هو معنى التأويل الوارد في القرآن- كما سبق أن بيّنا- فإذا كان تأويل الأمر هو فعله وتطبيقه عمليا، فإن الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو أوّل مؤول للأوامر الربانية في القرآن، لأنه فعلها عمليا، وأوجد حقيقتها المادية التي آلت إليها النصوص التكليفية.

٣ - أخرج الإمام أبو داود في سننه صفة حجة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كما رواها عنه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. ونقتطف من كلام جابر ماله صلة بموضوع تأويل الرسول عليه الصلاة والسلام للقرآن.

قال جابر رضي الله عنهما: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاج، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتمّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويعمل بمثل عمله.

حتي أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كيف أصنع؟ قال: اغتسلي، واستثفري بثوب وأحرمي.

فصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسجد ثم ركب القصواء، حتى إذا استوت به ناقته علي البيداء. فنظرت إلي مد بصري، من بين يديه، من راكب وماش، وعنه يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك.

ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعلم تأويله، فما عمل به من شيء عملنا به ... إن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يحمل تأويل القرآن علي معناه العملي، وتطبيق أوامر وأحكام القرآن بصورة فعلية مادية.

فالله أمر المسلمين بالحج، وتحدثت آيات القرآن عن مناسك الحج وأركانه، لكن كيف يحجّ المسلمون عمليا؟ وكيف ينفذون أوامر الله بالحج فعلا؟ وبعبارة أخري: كيف يؤول المسلمون آيات الحج تأويلا واقعيا؟ يؤدّون به مناسك الحج فعلا! يخبرنا جابر رضي الله عنه أنهم اقتدوا بالرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو يؤدّي مناسك الحج، فهو موجود بين أظهرهم، وهو حيّ معهم، وتنزل عليه آيات القرآن التي تبيّن أركان ومناسك الحج، وهو يعلم تأويل هذه الآيات، وهم يقتدون به في تأويله العملي للآيات.

إنّ تأويل الرسول صلّى الله عليه وسلّم لآيات القرآن الآمرة بالحج هو أداؤه لمناسك الحج فعلا، وتحقيق الصورة المادية الواقعية لها، وهذا هو معنى التأويل الوارد في القرآن.

تأويل الأمر أداؤه وتنفيذه، ولهذا كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع هو أول مؤوّل لآيات الحج في القرآن.