موسوعةالأخلاق الإسلامية-ظواهر خلقية لأكثر من أساسٍ خلقي(1- العفة وضدها)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-ظواهر خلقية لأكثر من أساسٍ خلقي(1- العفة وضدها)
527 0

الوصف

                                                    ظواهر خلقية لأكثر من أساسٍ خلقي

                                                           1- العفة وضدها
                          الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل العاشر: ظواهر خلقية لأكثر من أساسٍ خلقي >>

1- العفة وضدها

العفة: هي كف النفس عن المحارم وعما لا يجمل بالإنسان فعله. ومنها: العفة عن اقتراف الشهوة المحرمة، وعن أكل المال الحرام، وعن ممارسة ما لا يليق بالإنسان أن يفعله مما لا يتناسب مع مكانته الاجتماعية، ومما يراه الناس من الدناءات، كالجشع في الولائم والتسابق على أطايب الطعام، وكالجشع في التجارة ومزاحمة صغار الكسبة في مجالاتهم الحقيرة قليلة الموارد والأرباح، وكالتعرض لمحقرات المنافع عن طريق التطفل أو ما يشبه التطفل إلى غير ذلك من أمور كثيرة.

ويأتي في مقابل العفة الدناءة والخسة في كثير من صورها. والعفة من مكارم الأخلاق، والدناءة والخسة وكل ما ينافي العفة من رذائل الأخلاق.

ولدى تحليل دوافع العفة نجدها ترجع إلى أكثر من أساس خلقي، وذلك لأننا إذا وضعنا المثيرات، ونظرنا إلى دوافع النفس تجاهها، ثم نظرنا إلى القوة الضابطة التي تضبط النفس عن تلبية دوافعها فيما لا يحل أو فيما لا يجمل بالإنسان فعله، تكشفت لنا مجموعة من العوامل التي ترجع إلى مجموعة من الأسس الأخلاقية.

ولنفرض أن في ساحة الإثارة امرأة ذات منصب وجمال وهي تدعو إلى نفسها، وأن في ساحة النفس رجولة وشبابًا وحيوية، والفضيلة العامة توجب الامتناع عن تلبية دافع النفس، فما هو الخلق الذي يضبط النفس ويملكها عن تلبية الدافع في مثل هذا الموقف الحرج، حتى يكون الإنسان عفيفًا أو متعففًا؟

ولدى التحليل نلاحظ أن عدة عوامل قد تتدخل في هذا المجال، منها الصبر، ومنها الخوف من عاقبة تلبية الدافع، ومنها الطمع بثواب الكف، ومنها حب الحق الذي يجعل صاحبه يكف عما لا حق له به.

فبمقدار ما لدى الإرادة من قدرة على الصبر تستطيع القيام بضبط النفس عن تلبية الدافع المثار، فتكون العفة عندئذٍ من مظاهر خلق الصبر، وحين يكون الضبط بتأثير الخوف من العاقبة، أو بتأثير الطمع بالثواب، تكون العفة من مظاهر ذلك، وحين يكون الضبط بتأثير خلق حب الحق تكون العفة من مظاهره، وحين تجتمع كل هذه العوامل تكون العفة مظهرًا اشتركت فيه جملة أسس أخلاقية.

والعفة لا تكون إلا إذا وجد الدافع النفسي إلى ما ينافيها، فإذا لم يكن في النفس دافع إلى ما ينافي العفة، أو لم يوجد ما يثير الدافع لم يكن للعفة وجودٌ أصلًا.

فأي معنى لعفة من لا إرب له، أو لعفة معتزل في صومعة لا يتعرض إلى أي مثير؟! إنها عفة المحروم، أو عفة عاجزٍ لم يتعرض لامتحان.

ولما كانت عفة يوسف عليه السلام عفةً مستوفية كل شروطها وأركانها كانت من أعظم أمثلة العفة في تاريخ الإنسان. ففي يوسف الرجولة والشباب والدافع القوي، وفي امرأة العزيز الإثارة بكل قواها، جمال ومنصب، وإغراء كامل، ودعوة ملتهبة، وخلوة تامة، وتهديد إن لم يستجب. ومع استيفاء كل هذه العوامل القوية تبرز فضيلة العفة في يوسف عليه السلام، فيضبط نفسه بصبر منقطع النظير، ويقاوم الدوافع والمغريات بإصرار وعزيمة قوية، ترفعًا عن الخيانة، وطلبًا لمرضاة الله، وينتصر خلقه العظيم في معركة الدوافع والمغريات والتهديدات.

وقد عرض القرآن قصة يوسف مع امرأة العزيز أروع عرض يبرز الساحة النفسية عند يوسف، وساحة الإثارة بكل ملابساتها، وقوة الضبط الخلقي الذي جعل يوسف عليه السلام يكف عما لا يحل له، ويعطي أروع أمثلة العفة، فيقول الله تعالى في سورة (يوسف 12):

(وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيَّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25))

وهكذا كانت عفة يوسف عليه السلام مستوفية لكامل شروطها وأركانها، وبذلك نال مجد هذا الخلق العظيم.

وقد أمر الله بالعفة الذين لا يجدون قدرة على النكاح، حتى يغنيهم الله من فضله، ولم يأذن لهم بالتفريط فيها عند حاجتهم العضوية، فقال تعالى في سورة (النور 24):

(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ (33))

أي: فليلزموا جانب العفة، ولا يفعلوا ما لم يأذن به الله. والذين لا يجدون نكاحًا هم الذين لا يجدون قدرة مالية على الزواج. وفي قوله تعالى: (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ) إشارة إلى أنهم إذا التزموا جانب العفة أغناهم الله من فضله، فيتهيأ لهم بذلك زواج مناسب لهم.

تعفف الفقراء عن المسألة:

وتكون العفة في مجالات مغريات النفس المالية، وقد أثنى الله تبارك وتعالى على الفقراء المتعففين عن المسألة، وأوصى بالبحث عنهم وتعهدهم بالعطاء، فقال تعالى في سورة (البقرة 2):

(وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (273))

الإلحاف: هو شدة الإلحاح في المسألة، وشدة الإلحاح في الطلب، يقال لغة: ألحف السائل إذا ألح في الطلب؛ فمعنى (لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) : لا يلحون في طلب الصدقة من الناس.

وأرشد الله إلى أن هؤلاء المتعففين يعرفون بسيماهم، فقال: (تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ) فكيف تكون هذه المعرفة لهم مع أنهم متعففون؟

ويمكن أن نجيب بأن للفقر الحقيقي علامات تظهر على الإنسان الفقير المتعفف، كما تظهر على أسرته، في الطعام، والملبس، والمسكن، وفي حالة الجسم بشكل عام، وفي مراقبة موارد رزقه، إلى غير ذلك من علامات.

وعلى المسلمين أن يبحثوا عن أحوال الفقراء المتعففين، ويمدوهم بحقوقهم التي فرضها الله في أموال الأغنياء، فهم لا غرو يُعرفون، يعرفهم من كان دقيق الملاحظة جيد الفراسة، إلا أن الجاهل هو الذي يحسبهم أغنياء من التعفف، وهذا ما نبه عليه القرآن.

التعفف عن كل ما وهب الله الآخرين:

ومن العفة عفة الإنسان عن النظر والتطلع إلى ما لدى غيره من متع الحياة الدنيا، من مختلف الأصناف، وفي ذلك يقول الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم في سورة (طه 20):

(وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131))

وخطاب الرسول في مثل هذا خطابٌ لكل مؤمن برسالته.

وفي قوله تعالى:( وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ) أمر بالعفة، ونهي عن مجانبة سبيلها.

"أزواجًا" أي أصنافًا مختلفة من زهرة الحياة الدنيا، فيدخل فيها كل ما تمتد إليه مطامع الناس: (مال - سلطان - حدائق وبساتين - خيلٌ مسومة وأنعام - قصور ومساكن طيبة - زوجات حسان - جاه عريض - قوة وجمال - أولاد وذرية) إلى غير ذلك من أصناف مختلفات.

وإذ أمر الله بالعفة لفت الأنظار إلى ما عنده من رزقٍ هو خير وأبقى، وهذا من عناصر التربية القرآنية الحكيمة، وهي التربية بالتحويل والتصعيد.

وضد العفة في هذا المجال الحسد، والعفيف يترفع عن رذيلة الحسد؛ لأنه لا يمد عينيه إلى ما لدى غيره من زهرة الحياة الدنيا، كما أن غير العفيف الذي يمد عينيه إلى شيء غيره هو في الغالب حسود، أو ذو عدوان.

ومن لا عفة عنده يسقط في الخيانة، سواء أكانت خيانة مالٍ أو عرضٍ أو غير ذلك.

والعفيف المتعفف مع حاجته من أهل الجنة، والخوان من أهل النار، روى مسلم عن عياض بن حمارٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطانٍ مقسط متصدق موفق، ورجلٌ رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال. وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له الذين هم فيكم تبعٌ لا يبغون أهلًا ولا مالًا. والخائن الذي لا يخفى له طمعٌ وإن دق إلا خانه. ورجلٌ لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك. وذكر البخل أو الكذب. ثم قال: والشنظير الفحاش.

لا زبر له: أي لا عقل له يعقله عن المعاصي والآثام.

الشنظير الفحاش: هو سيئ الخلق بذيء اللسان.