موسوعةالأخلاق الإسلامية-علو الهمة (التربية الإسلامية على الزهد في الدنيا تطلعًا إلى الآخرة)

الوصف
علو الهمة
التربية الإسلامية على الزهد في الدنيا تطلعًا إلى الآخرة
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل التاسع: علو الهمة >>
التربية الإسلامية على الزهد في الدنيا تطلعًا إلى الآخرة ومنازلها العالية:
وقد عمل الإسلام على تربية المسلمين بمختلف الوسائل التربوية، لاكتساب هذه الظاهرة من ظواهر خلق علو الهمة:
1- فاتخذ الإسلام لذلك وسيلة الإقناع بحقيقة ما في الدار الآخرة من كمالات عظيمة ونعيم مقيم، للذين يطلبونها ويسعون لها سعيها وهم مؤمنون، والإقناع بحقيقة الحياة الدنيا، وأنها مزرعة للآخرة، وأن مدتها قليلة ضئيلة بالنسبة إلى الخلود المقرر للآخرة، وأنّ كل نعيم فيها مهما عظم فهو قليل ضئيل سريع الزوال مغموس بالأكدار والمنغصات، وهو في جوهره بالنسبة إلى ما في الآخرة حقير لا يؤثره ويفضله على ما في الدار الآخرة إلا كافر بها، أو منحط الهمة قاصر النظر، يؤثر العاجلة ويذر الآخرة.
ولذلك جاء وصف الآخرة بأنها دار القرار ودار الخلود، وبأنها لهي الحيوان، وبأنها دار المقامة.
قال الله تعالى حكاية لقول موسى لقومه في سورة (غافر 40):
(يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39))
أي: دار الاستقرار والثبات.
وقال الله تعالى في سورة (العنكبوت 29):
(وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64))
أي: لهي الحياة الباقية الخالدة الحقة التي لا فناء فيها ولا زوال.
وقال تعالى في سورة (فاطر 35) حكاية لما سيقوله أصحاب الجنة وهم فيها ينعمون:
(وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35))
أي: لا يمسنا فيها تعب ولا يمسنا فيها إعياء، بل قوة دائمة على التلذذ بما فيها من نعيم مقيم.
وجاء وصف ما في الجنة بأنه نعيم، وبأنه نعيم مقيم، وسميت الجنة جنة نعيم، وسميت الجنات جنات النعيم، فالنعيم في الآخرة يقابل المتاع والاستمتاع في الدار الدنيا.
فقال الله تعالى في سورة (التوبة 9):
(الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22))
وقال تعالى في سورة (الواقعة 56):
(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِّنَ الأوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِّنَ الآَخِرِينَ (14))
2- واتخذ الإسلام بعد الإقناع وسيلة الحث على طلب ما في الآخرة من نعيم خالد وكمالات عظيمة، وتحويل قلوب المؤمنين ونفوسهم عن التعلق بزينة الحياة الدنيا وزخرفها والتزهيد فيها كلما كانت صارفة عن السعي لتحصيل ثواب الآخرة ومجدها الرفيع؛ دون أن يؤثر ذلك على الواجبات المتعلقة بالحياة الدنيا، والاستفادة مما سخر الله للناس فيها.
وفي الإقناع بالفارق الكبير بين ما في الدنيا وما في الآخرة، يقول الله تعالى في سورة (الرعد 13):
(وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ (26))
أي: وما الحياة الدنيا في جنب الآخرة وبالقياس عليها إلا متاع.
وقال تعالى في سورة (التوبة 9):
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38))
أي أرضيتم بالحياة الدنيا بدل الآخرة! فما متاع الحياة الدنيا في جنب الآخرة وبالقياس عليها إلا متاع قليل، لا يستبدله العقلاء المؤمنون بالآخرة وما فيها، فلا يرضون بالحياة الدنيا بدلًا عن الآخرة وما فيها من نعيم مقيم.
وقال تعالى في سورة (الزخرف 43):
(وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَّكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35))
أي: لولا أن يكفر الناس جميعًا بسبب تفضيل الكافرين بمتاع الحياة الدنيا لفضلهم الله في الدنيا على المؤمنين بهذا المتاع الفاني احتقارًا له وامتحانًا للمؤمنين.
فالبيوت الفارهة ذات السقف المصنوعة من الفضة، وذات المعارج والمصاعد المريحة، وذات الأبواب العظيمة والسرر النفيسة، والمزخرفة بالذهب، قد وصفها الله بأنها متاع الحياة الدنيا، ثم وجه الله المؤمنين إلى الآخرة وما فيها من نعيم مقيم.
وقال تعالى في سورة (الشورى 42):
(فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36))
وروى مسلم بسنده عن المستورد بن شداد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع.
وروى مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيرًا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟. فيقول: لا والله يا رب. ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغةً في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسًا قط؟. هل مر بك شدة قط؟. فيقول: لا والله ما مر بي بؤسٌ قط، ولا رأيت شدة قط.
فيصبغ صبغةً: أصل الصبغ في اللغة الغمس، يقال: صبغ يده في الماء أو في الزيت أو نحوهما إذا غمسها، فمعنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
فيصبغ صبغة
: فيغمس غمسة، في النار أو في الجنة، أي: يذوق ما في هذه من عذاب بمقدار غمسة، ويذوق ما في هذه من نعيم بمقدار غمسة.
أي: يؤتى بأنعم أهل الدنيا ممن قضي عليه بأن يكون من المعذبين في النار يوم القيامة، فيغمس في النار غمسة يسيرة يذوق بها ألم العذاب، ثم يطلب منه أن يقارن بين هذا العذاب وبين النعيم الذي كان قد تمتع به في الحياة الدنيا، وهل كان ذلك النعيم يستحق الاغترار به وإيثاره؟
فيقول: ما رأيت خيرًا قط ولا مر بي نعيم قط يستحق أن يذكر، وذلك بالقياس على ما ذاق من عذاب في هذه الغمسة اليسيرة، فكيف بالخلود في هذا العذاب؟
ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا ممن قضي له بأن يكون من أهل الجنة لإيمانه وصالح عمله، فيغمس في نعيم الجنة غمسة يسيرة يذوق بها طرفًا قليلًا من هذا النعيم، ثم يطلب منه أن يقارن بين هذا النعيم وبين البؤس الذي كان قد ذاقه في الحياة الدنيا، وهل كان ذلك البؤس يستحق الضجر منه، ما دام هذا النعيم بعض ثواب الآخرة؟
فيقول: ما مرّ بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط، أي: فما سبق لي من بؤس لا يستحق أن يذكر بالنسبة إلى هذا النعيم الذي وجدته في هذه الغمسة اليسيرة في نعيم الجنة، فكيف بالخلود في نعيم هذا جزء يسيرٌ منه؟
ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة
فيما روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه.
ومن أجل ذلك علت همة الرسول صلى الله عليه وسلم عن زينة الحياة الدنيا، وزهد بها، وحينما عرضت عليه جبال مكة أن تكون له ذهبًا رفضها، واختار لنفسه العبودية والمسكنة، ولهذا قال صلوات الله عليه فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة:
لو كان لي مثل أحدٍ ذهبًا لسرني أن لا يمر علي ثلاث ليالٍ وعندي منه شيءٌ إلا شيءٌ أرصده لدين.
على أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يزهد بأن يدخل عليه مالٌ كثير، إنما كان يزهد بادخاره لنفسه وحرصه عليه، ويدلنا على هذه الحقيقة ما رواه البخاري ومسلم عن أبي ذر قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرةٍ بالمدينة، فاستقبلنا أحد، فقال:
يا أبا ذر
قلت: لبيك يا رسول الله، قال:
ما يسرني أن عندي مثل أحدٍ هذا ذهبًا تمضي علي ثلاثة أيام وعندي منه دينار، إلا شيءٌ أرصده لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا
وأشار بيده صلوات الله عليه عن يمينه وعن شماله ومن خلفه. ثم سار فقال:
إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا وقليل ما هم
وأشار بيده صلوات الله عليه عن يمينه وعن شماله ومن خلفه.
3- وكان الرسول صلوات الله عليه المثل الأعلى في علوم همته، وفي طلبه للدار الآخرة، وفي زهده بجمع المال، ولو شاء لكان أغنى الناس مالًا، وفي زهده بما في الحياة الدنيا من ترف ونعيم، رغبة بالبذل والعطاء، وطلبًا لما عند الله من ثواب عظيم ومراتب ساميات، حتى توفي صلوات الله عليه دون أن يترك عند موته درهمًا ولا دينارًا.
روى البخاري عن عمرو بن الحرث أخي جويرية بنت الحارث أم المؤمنين، قال: "ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته درهمًا ولا دينارًا، ولا عبدًا ولا أمةً ولا شيئًا، إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه، وأرضًا جعلها لابن السبيل صدقة".
وروى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في بيتي شيءٌ يأكله ذو كبد، إلا شطر شعير في رف لي، فأكلت منه حتى طال علي فكلته ففني".
شطر شعير: أي شيءٌ قليل من شعير.
لقد كانت البركة الربانية تزيد منه، فلما كالته عائشة رضي الله عنها