موسوعةالأخلاق الإسلامية-علو الهمة (5- التطلع إلى الكمال والترفع عن النقص)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-علو الهمة (5- التطلع إلى الكمال والترفع عن النقص)
321 0

الوصف

                                                    علو الهمة

                                      5- التطلع إلى الكمال والترفع عن النقص
        الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل التاسع: علو الهمة >>

5- التطلع إلى الكمال والترفع عن النقص

من ظواهر خلق علو الهمة التطلع الدائم إلى الكمال، والسعي إليه قدر المستطاع، والنفور من النقص وكراهيته، والترفع عنه والخوف من الظهور بمظاهره.

وفي الحديث:

إن الله يحب معالي الأمور ويبغض سفسافها.

 أي: ببغض الرديء الحقير من كل شيءٍ وكل عمل.

وفي حديث آخر:

إن الله رضي لكم مكارم الأخلاق وكره لكم سفسافها.

والسفساف: هو الأمر الحقير والرديء من كل شيءٍ، وهو ضد المعالي والمكارم. وأصل السفساف ما يطير من غبار الدقيق إذا نخل، والتراب إذا أثير.  كذا في لسان العرب.  

وقد دفع القرآن إلى مراتب الكمالات، إذ ميز بين الطيب والخبيث، وبين الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وبين المجاهدين والقاعدين، وبين السابقين والمتخلفين، وفضل المرتقين في مراتب الكمال على الناقصين، ونصوص القرآن في هذا كثيرة منها ما يلي:

1- قول الله تعالى في سورة (المائدة 5):

(قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ (100))

2- وقول الله تعالى في سورة (الزمر 39):

(أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ (9))

أي: أفمن هو قانت... (إلى آخر الاستفهام) كمن ليس كذلك، وجواب الاستفهام بداهة: لا.

3- وقول الله تعالى في سورة (النساء 4):

(لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (96))

4- وخاطب الله المؤمنين بقوله في سورة (الحديد 57):

(لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10))

أي: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل هو ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل.

ولما كان الارتقاء في مراتب الكمال لا يأتي بمجرد الأماني، وإنما يأتي بالجهاد والاجتهاد والعمل الدائب والصبر والمصابرة، قال الله تعالى للذين آمنوا في سورة (النساء 4):

(لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا (123) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124))

أي: ليس دخول الجنة والظفر بمراتبها العلية، ولا النجاة من النار ومن دركاتها الدنية، بالأماني، ولكن بالعمل، بفعل الصالحات وترك السيئات، وهذا إنما يكون ببذل الطاقة ارتقاءً في مراتب الكمال وترفعًا عن دركات النقصان، وبالطاعة على قدر الاستطاعة.

وهذا ما وجه له الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ حرض على ابتغاء الكمال والتطلع إليه، والسعي لارتقاء درجاته، ببذل المستطاع من القوة، مع الاستعانة بالله القوي العزيز.

فمن ذلك ما روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلّ خير. احرص على ما ينفعك. واستعن بالله ولا تعجز. وإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء الله فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان.

ففي قول الرسول صلى الله عليه وسلم:

احرص على ما ينفعك

أمر للمؤمن بأن يحرص على ما فيه نفع له، والحرص على الشيء أبلغ من ابتغائه والتطلع إليه. وما ينفع الإنسان نفعًا صحيحًا مقترن بارتقائه في مراتب الكمالات، وابتعاده عن دكات النقصان، وذلك لأن دركات النقص في الحياة ليس فيها نفع صحيح، وإن كانت محفوفة بالشهوات، أما مراتب الكمال ففيها النفع الصحيح، وإن كانت محفوفة بالمكاره. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

حجبت النار بالشهوات وحجبت الجنة بالمكاره

ومعلوم أن في دخول النار أشد المضرة، وأن فيها تتنازل الدركات، وهي تناسب هبوط الإنسان في دركات السلوك في الحياة الدنيا. وأن في دخول الجنة أعظم المنفعة الحقيقية، وأن فيها تتعالى الدرجات، وهي تناسب ارتقاء الإنسان في مراتب الكمال عقيدة وخلقًا وسلوكًا في الحياة الدنيا.

وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم:

واستعن بالله ولا تعجز

عقب قوله

احرص على ما ينفعك

توجيه لبذل المستطاع من القوة لتحقيق ما ينفع، أي لارتقاء مراتب الكمال، وتوجيه لطرد الشعور بالعجز الذي قد يصيب نفس الإنسان، بتوجيهها للاستعانة بالله القوي العزيز الذي لا يعجزه شيء، فهو يمد من استعان به بما يشاء من إمداد. ومع شعور المؤمن بارتباطه بالله تتهدم في نفسه الصعوبات، وينطرح عنه كابوس العجز. وهذه الاستعانة تشحن النفس بقوة معنوية عظيمة، إذ تجعل المؤمن حينما يعمل يلاحظ أن الله معه يمده بالعون، فيضاعف من جهده، وقلبه مطمئن لا قلق فيه ولا اضطراب، وهذه أهم عناصر إنتاج العمل إنتاجًا وافرًا. أما ترك العمل والتباطؤ عنه أو التباطؤ فيه، مع زعم التوكل على الله، والتعلق بالأماني، فهو فهم سيئ جدًّا لمعنى التوكل، وما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفهمونه كذلك، وما كان علماء المسلمين من قبل يفهمونه على هذا الوجه، وإنما هو فهم دخيل قد يتعلق به جهلة من المنتسبين إلى الإسلام، إنه ليس توكلًا على الله ولا استعانة به، وإنما هو انهزام من ميادين العمل، وعجز وكسل، وتعلل بأوهن العلل.

ومن أجل ذلك صدر الرسول صلى الله عليه وسلم كلامه في هذا الحديث بقوله:

المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.

وفي الصحيح من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم قوله:

ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه.

والقوي هو صاحب العزم عالي الهمة، الذي يواجه صعوبات الحياة ومراقي الكمالات، بقوة وعزيمة وهمة عالية، فيحرص على ما ينفعه، ويبذل كل ما يستطيع من قوة لديه مستعينًا بالله، غير متخاذل ولا شاعر بالعجز أو خائف منه، كيف يعجز وعون الله يصاحبه إذا كان صادقًا مع الله؟! ولكن يجب عليه أن يقدر الأمور قدرها، ويتخذ لها أسبابها المكافئة لها.

وفي مقابل شحن النفس بحوافز العمل تجاه الحاضر والمستقبل، إعلاء لهمة المؤمن، وجه الرسول صلوات الله عليه المؤمن إلى صرف نفسه عن اجترار أحزان الماضي وآلامه، والتحسر على ما فاته فيه، فقال:

وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء الله فعل، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان.

إن الاشتغال بالتحسر والحزن على ما فات يضيع على الإنسان حاضره، ويضيع عليه كل زمن آتٍ يشغله باجترار الحزن والتحسر، ثم يأتي زمن آخر يتحسر فيه على الزمن الذي ضيعه في الحزن والتحسر، وهكذا تتسلسل الأغنية الشيطانية التي يقول فيها الإنسان: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، وتأتي المنية وقد ضاع العمر في الحزن والتحسر على فوات الأماني.

إن تحقيق الأماني لا يكون بالندم على ما فات، ولا باجترار الأحزان على الماضي، وإنما يكون بالعمل واستغلال كل وقتٍ يمر به الإنسان، أملًا بتحقيق الأماني والآمال في المستقبل، وهذا من علو الهمة.

أما إضاعة الحاضر حزنًا على الماضي فهو من نزول الهمة، وهو انسياق وراء أوهام ووساوس شيطانية، ما فيها للإنسان إلا الضرر، وضياع العمر سدى.

وكلمة "لو" التي يتحسر فيها الإنسان على ما فاته من عمل في الماضي تفتح عمل الشيطان، وعمل الشيطان هو تبديد عمر الإنسان فيما لا خير فيه.

وأبعد الأشياء من الإنسان ما فاته في ماضي زمانه، فكل ماضٍ هو في حكم العقل بعيد؛ لأنه غير ممكن الاسترجاع.

وفي النهي عن العجز والحث على العمل، روى أبو داود عن عوف بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين، فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

إن الله تعالى يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمرٌ فقل: حسبي الله ونعم الوكيل.

الكيس: الخفة والتوقد والنشاط في العمل، والعقل في التصرف، والرفق في الأمور.