موسوعةالأخلاق الإسلامية-علو الهمة (6- الحياء)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-علو الهمة (6- الحياء)
303 0

الوصف

                                                    علو الهمة

                                                    6- الحياء
            الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل التاسع: علو الهمة >>

6- الحياء

ومن ظواهر خلق علو الهمة الحياء، فالحياء ظاهرة تعبر عن الخوف من الظهور بمظاهر النقص، وتعبر عن ترفع النفس عنه، وعدم الرضى به وإن مستها بعض عوارضه، وتعبر عن علو همة النفس إلى الكمالات، ونفورها من النقائص وكراهيتها لها، وحذرها من أن تظهر أمام الناس ببعض مظاهرها.

فالإنسان لا يستحيي من الكمال إذا هو ظهر به واتصف بصفاته، وإنما يستحيي مما فيه نقص، أو مما يخشى أن يكون فيه نقص. لذلك فالحياء من علو النفس، وحبها للكمال وحرصها على أن تتصف بصفاته، وتظهر أمام الناس بالمظاهر التي تدل عليه.

وقد نلاحظ بعض الناس من الذين يغلب عليهم الحياء يستحيون من أمور لا نقص فيها، وليس من شأنها أن يستحيى منها، ولكن ذلك يرجع إلى سوء فهمهم لبعض الأمور، أو إلى عدم تقديرهم الأمور حق قدرها. فالانفعال الخلقي الذي يكون التعبير عنه بظاهرة الحياء انفعالٌ صادق، والمحرك له في النفس علوّ الهمة، الذي ينشأ عنه في بعض جوانبه النفور من النقص، وكراهية الظهور بشيءٍ من مظاهره، أو الخوف من الاتصاف أمام الناس ببعض صفاته. ولكن الذي قد يحدث أن الفكر ربما يقدم للنفس مفاهيم خاطئة، مستندة إلى أوهامٍ أو تقاليد فاسدة، والفكر بالنسبة إلى النفس هو مرجعها ومحل ثقتها، فتنفعل النفس وتستجيب استجابة صادقة لهذه المفاهيم الخاطئة، فالمسؤول عن ظاهرة الحياء في غير محله مفاهيم الفكر الخاطئة. ولكن حين يجري تصحيح هذه المفاهيم لا يستحيي ذو الحياء مما لا يستحيى منه، بل يواجه الناس به بكل جرأة وشجاعة.

ونظير ذلك انفعال الخوف، فمن الناس من يخاف من أمور وهمية تجسمت في تخيلاته، والمسؤول عن هذا الخوف الذي هو في غير محله أوهام الفكر. أما الانفعال النفسي فهو صادق تجاه ما قدمه الفكر من أمور زعمها للنفس حقائق وهي ليست بحقائق، وإنما هي أوهام كاذبة، وكما أن الخوف يبقى على طول الخط انفعالًا مما يخشى منه الضرر أو الأذى، فإن الحياء يبقى على طول الخط انفعالًا يثيره ما في النفس من همةٍ عالية، تحب الكمال، وتحرص على أن تتصف بصفاته، أو تظهر بالمظاهر التي تدل عليه.

من أجل هذا قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الحياء من الإيمان، وأنه خيرٌ كله. فقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

دعه فإن الحياء من الإيمان.

وروى البخاري ومسلم أيضًا عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

الحياء لا يأتي إلا بخير

وفي رواية:

الحياء خيرٌ كله.

ومن المشاهد المجرب أن خلق الحياء يمنع صاحبه عن ارتكاب النقائص والقبائح والمنكرات، أما حينما ينعدم خلق الحياء، فإنه يهون على الإنسان أن يفعل من النقائص والقبائح والمنكرات ما يشاء. وإعلانًا عن هذه الحقيقة جاء في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم:

إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت.

(رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود).

ففقد خلق الحياء يجعل الإنسان وقحًا، وماجنًا يجاهر بقبائح فعاله دون أن يبالي أحدًا، ودون أن يكترث بما يقوله الناس فيه، وبما يعيبونه به، ومن الوقاحة والمجانة أن يتحدث الإنسان بما فعل من القبائح التي سترها الله عليه.

روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

كل أمتي معافى إلا المجاهرون، وإن من المجانة أن يعمل الرجل عملًا بالليل ثم يصبح وقد ستره الله. فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه.

أما الحياء فيحجز المرء عن الفواحش، ويجعله يتستر بها إذا هو كبا فسقط في شيءٍ من أوحالها، ويجعله بعيدًا عن فحش القول والبذاءة.

والحياء يدفع المرء إلى التحلي بكل جميل محبوب، والتخلي عن كل قبيح مكروه. والجمال من الكمال، والقبح من النقصان، وجمال الخصال والأفعال أسمى من جمال الرسوم والأشكال.

لكل ذلك حث الإسلام على التحلي بخلق الحياء، والبعد عن كل وقاحة ومجانة وفحش وبذاء، وفيما يلي طائفة من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا:

(أ) روى الإمام أحمد والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار.

فالجفاء يهون على الإنسان أن يكون فاحشًا بذيئًا، وهذا لا يكون إلا من وقح، والله يبغض الفاحش البذيء.

(ب) وعن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

إن أثقل شيء يوضع في ميزان المؤمن يوم القيامة خلق حسن، وإن الله يبغض الفاحش البذيء.

(رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح).

(ج) وروى البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

إن الحياء والإيمان قرناء جميعًا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر.

وفي رواية عن ابن عباس:

فإذا سلب أحدهما تبعه الآخر.

(د) وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

إن لكل دين خلقًا، وخلق الإسلام الحياء.

رواه الإمام مالك مرسلًا عن زيد بن طلحة، ورواه ابن ماجه والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس وابن عباس.

(هـ) والحياء من صفات الله عز وجل، فقد روى الترمذي وأبو داود والبيهقي في الدعوات الكبير، عن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إن ربكم حيي كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرًا.

وقد نتساءل عن وجه التلازم بين الإيمان والحياء، حتى يكون رفع أحدهما مستلزمًا لرفع الآخر كما جاء في الحديث:

إن الحياء والإيمان قرناء جميعًا فإذا رفع أحدهما رفع الآخر

وفي الإجابة على هذا التساؤل نضع أمامنا أولًا ما جاء في كلام الرسول أيضًا من أن الحياء من الإيمان. ثم نقول: متى سلمنا بأن الحياء من الإيمان، أي: من آثاره في السلوك النفسي، وفي ردود أفعالها، ثم عرفنا أن الإيمان مع لوازمه التي لا ينفك عنها يمثل وحدة كلية لا تقبل التجزئة، كان من الطبيعي أن نفهم أنه متى رفع الحياء رفع الإيمان؛ لأن الحياء جزء ملازم للإيمان الصحيح الصادق وهو لا ينفك عنه، فعدم وجود الحياء دليل على عدم وجود الإيمان.

ولما كان الباعث على الحياء من المعاصي وسيئ الأفعال هو الإيمان الذي يرافقه الخوف من الله وخشية جلاله، كان من الطبيعي أن لا يوجد الحياء متى رفع الإيمان، وكان من الطبيعي أن تحل محلّه القحة والجرأة على فعل كل قبيح فيه معصية لله تبارك وتعالى، ولا يبقى بعد ذلك إلا الحياء من الناس في أمر اصطلحوا على أن يعتبروه عيبًا، وهذا من شأنه أن ينهار شيئًا فشيئًا بتغيير العادات، وإطلاق الحريات، فما كان يستحيى منه يمسي بتغيير العادة أمرًا يفتخر به، في مجتمع انهارت فيه المفاهيم الدينية والمبادئ الأخلاقية.

بهذا يظهر لنا سر التلازم بين الحياء والإيمان وفق المفهوم الأخلاقي في الإسلام.

ولقائل أن يقول: إن بعض المسلمين قد توجد منهم مجانة ووقاحة في بعض الأحيان، كما نلاحظ أن الحياء من فعل النقائص والقبائح قد يوجد عند غير المؤمنين.

ولنا أن نجيب بأن المسلم حينما يفعل النقائص والقبائح بوقاحة ومجانة، فإن الإيمان يرتفع عنه ما دام في حالته تلك، ومثله بالنسبة إلى الإيمان كمثل المغمى عليه إذ يفقد وعيه، فالمغمى عليه يرجع إليه وعيه متى صحا، وهذا يرجع إليه إيمانه متى عاد إلى رشده وأقلع عن مجانته، فارتفاع الإيمان مع ارتفاع الحياء عنده كان حركة مؤقتة. ولهذا نظير في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم في تفسير وقوع الكبائر من المؤمن. فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبةً يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن، ولا يغل أحدكم حين يغل وهو مؤمن، فإياكم إياكم.

وفي رواية عن ابن عباس:

ولا يقتل حين يقتل وهو مؤمن.

قال عكرمة: قلت لابن عباس: كيف ينزع الإيمان منه؟ قال: هكذا، وشبك بين أصابعه ثم أخرجها، فإذا تاب عاد إليه هكذا، وشبك بين أصابعه.

قال البخاري: لا يكون هذا مؤمنًا تامًا، ولا يكون له نور الإيمان.

أي: إن المؤمن كامل الإيمان لا يسمح لنفسه بأن تغفل غفلة ترفع عنه سلطان الإيمان.

وقد أبان الرسول صلى الله عليه وسلم ارتفاع الإيمان بصورة أوضح، إذ مثل ارتفاعه بأنه يكون فوق رأسه كالظلة، فإذا انتهى من معصيته رجع إليه الإيمان. نجد هذا فيما رواه الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان فوق رأسه كالظلة، فإذا خرج من ذلك العمل رجع إليه الإيمان.

وهذا البيان النبوي يعطي تفسيرًا أدق لارتفاع الإيمان.

وما جاء في هذا البيان أمرٌ مشاهد في أنفسنا، فالمعصية الكبرى لا تصدر من أحد المؤمنين إلا إذا كان في غفلة عن الله، وعن بواعث الإيمان في القلوب، وتشبيه هذه الغفلة بالصورة البيانية التي رسمها الرسول صلى الله عليه وسلم تشبيه رائع.

وعلى هذا فلا نحكم على من كان مرفوع الإيمان رفعًا مؤقتًا بالكفر، إنما هو ليس في كمال الإيمان، بل هو في ظلال الإيمان، وهكذا يكون ارتفاع الإيمان عند ارتفاع الحياء.

أما وجود ظاهرة الحياء عند غير المؤمنين، فهي مرتبطة بما يقول الناس عنه هذا عيب أو نقص. إن المؤمن إذا خلا بينه وبين نفسه استحيى من ربه أن يفعل النقائص والقبائح، أما غير المؤمن فإنه لا يجد شيئًا من الشعور بحياءٍ من هذا القبيل، جُل ما في الأمر أنه قد يستحيي مما يقول الناس عنه هذا عيب أو نقصٌ، فهو يحرص على أن يكون كاملًا في أعين الناس، وليس له عناية بالكمال الحقيقي الذي ترتبط مفاهيمه بالإيمان. هذه واحدة، وأخرى أنه على مقدار بقايا مواريث الإيمان في أمةٍ