موسوعةالأخلاق الإسلامية-علو الهمة (9- الحزم في الأمور)

الوصف
علو الهمة
9- الحزم في الأمور
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل التاسع: علو الهمة >>
9- الحزم في الأمور
ومن ظواهر خلق علو الهمة الأخذ بالحزم في الأمور، والقيام بما يجمل ويحسن من أعمال دون تسويف ولا تأجيل عند القدرة على التنفيذ.
وقد حث الإسلام على هذه الظاهرة الخلقية التي تنبع من خلق علو الهمة وكمال العقل، وحبب إلى المسلمين الكياسة وحذرهم ونفرهم من العجز والتسويف.
إن العاقل الحصيف ذا الإرادة القوية يعلم أن عمره رأس مال حياته، وأنه لا يمكن ادخاره، فهو يجري بنفسه دون أن يستطيع مالكه حبسه، فإما أن يغنمه بعمل صالح يستطيع ادخاره ليسعد به، وإما أن يدعه يجري بددًا دون أن يغنم منه شيئًا، وإما أن يجني فيه على نفسه.
وحين يعلم العاقل الحصيف ذو الإرادة القوية هذه الحقيقة فإنه سيختار لنفسه الحزم، والكياسة، فيغنم ما يجري من عمره بما يستطيع من أعمال صالحات، ويبادر إليها بحزم، ويغتنم فرصه التي إذا مرت لم يكن لها عوض.
والشباب والصحة والفراغ والقدرة على العمل كل هذه مغانم متى مر عليها الزمن دون انتفاع منها ضاعت من يد صاحبها، وفرت دون أن يستطيع القبض عليها، ثم صارت أخبارًا تروى، وذكريات لا وجود لها إلا في الخواطر المتحسرة النادمة، وأزمانًا ماضية لا رجعة لها، ويجتّر فاقدها الندم عليها ولكن لات ساعة مندم، زمن مضى، وشباب ولى، وقوة ضعفت، فكيف الرجعة؟!
ثم إذا انقضى العمر كله ولم يغتنم فيه صاحبه عملًا صالحًا، حل به الخسران المبين، والندم المحدق والمحرق للقلوب على ما فات، ولكن هيهات هيهات.
وقد صور القرآن حالة هذا الخاسر، إذ يجد نفسه وقد ضيع ما كان باستطاعته أن يغنم به نجاته وسعادته، فيطلب من ربه الرجعة ليعمل عملًا صالحًا فيما ترك، ولكن حُمّ القضاء فلا رجعة إلى الدنيا، إنّ إلى الله الرجعى.
وهذا الطلب يطلبه الخاسر إذا جاءه الموت، قبل مفارقة روحه جسده، ويطلبه إذا مات وانفصلت روحه عن جسده، ويطلبه في موقف الحساب يوم القيامة ويطلبه حين يوقف على النار ليلاقي مصيره الأليم، ويجاب عليها جميعًا بالرفض.
وقد دل على هذا الطلب في المرحلة الأولى قول الله تعالى في سورة (المنافقون 63):
(وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11))
ففي هذا النص تصوير لطلب تأخير الأجل في حالة الغرغرة مع نزول مصيبة الموت.
ودل على هذا الطلب في المرحلة الثانية عند الموت وبعد انفصال الروح عن الجسد، قول الله تعالى في سورة (المؤمنون 23):
(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100))
ففي هذا النص تصوير لطلب الرجعة إلى الحياة الدنيا بعد الموت، لاستئناف حياة الابتلاء، حتى يعمل الخاسر صالحًا فيما ترك، ولكنه يزجر ويرفض طلبه.
ودل على طلب الرجعة إلى الحياة الدنيا في موقف الحساب قول الله تعالى في سورة (السجدة 32):
(وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12))
ففي هذا النص تصوير لطلب الرجعة إلى الحياة الدنيا حينما يقف المجرمون عند ربهم في موقف الحساب.
والسبب في رفض طلب الرجعة أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، ولم يستقيموا؛ لأنهم لو ردوا للامتحان فسيردون وقد محيت من ذاكرتهم صورة الحياة الآخرة، وبذلك يرجعون لاستئناف ما بدأوه في الامتحان الأول، قال الله تعالى في سورة (الأنعام 6):
(وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28))
فالعاقل الكيس هو الذي يغتنم فرصة عمره في الحياة الدنيا فيملأه بصالح العمل.
والعاجز الأحمق هو الذي يتبع نفسه هواها، ويتمنى على الله الأماني، والأماني وحدها لا تنفع صاحبها ما لم تصاحبها أعمال صالحات من شأنها أن تحقق في سنن الله الأماني المطلوبة.
وفي توجيه الإسلام إلى الكياسة والحزم والخلاص من العجز وضعف الإرادة واتباع الهوى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وابن ماجه عن شداد بن أوس:
الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله.
الكيس: هو العاقل الحازم الذي يعمل أحسن عمل ينفعه، ويقابله العاجز ضعيف الإرادة الذي يتبع أهواء نفسه فلا عقل ولا حزم عنده.
والعجز إذا كان عجزًا جسديًّا فإن الله يعذر به ولا يؤاخذ عليه، وصاحبه في زمرة الضعفاء، أما العجز الإرادي وهو الذي يفقد صاحبه الحزم في الأمور، فإن الله يؤاخذ عليه، وهو من مجالات الابتلاء في الحياة الدنيا، روى أبو داود عن عوف بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
إن الله تعالى يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمرٌ فقل: حسبي الله ونعم الوكيل.
ومن التوجيهات النبوية لاغتنام أعظم ما يملكه الإنسان في حياته بالعمل الصالح، جاء في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم:
اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك.
وفي المبادرة بالأعمال الصالحة، روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
بادروا بالأعمال الصالحة فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا.