نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء التاسع والعشرون (في تحريم استحلال شعائر الله إلا ما نسخ منها، وفي إباحة الصيد بعد التحلل، ووجوب التعاون على البر والتقوى)

الوصف
نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء التاسع والعشرون (في تحريم استحلال شعائر الله إلا ما نسخ منها، وفي إباحة الصيد بعد التحلل، ووجوب التعاون على البر والتقوى)
النداء التاسع والعشرون:
تعظيم شعائر الله
قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" (المائدة:2).
موضوع الآية: تعظيم شعائر الله وتحريم استحلالها إلا ما نسخ منها، وفي إباحة الصيد بعد التحلل، ووجوب التعاون على البر والتقوى، وحرمة التعاون على الإثم والعدوان.
معاني الكلمات:
"شَعَائِرَ اللهِ" : جمع شعيرة أي معالم دينه وخصت بمناسك الحج.
"لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ" : أي بالصيد في الإحرام.
"الشَّهْرَ الْحَرَامَ" : أي بالقتال فيه، وهو رجب الذي كانت تعظمه.
"الْهَدْيَ" : ما يهدى للبيت والحرم من بهيمة الأنعام.
"الْقَلائِدَ" : جمع قلادة وهي ما يعلق في العنق، وهي ما يقلد الهدي، وما يتقلده الرجل من الحاء شجر الحرم ليأمن.
"وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ" : قاصدين يطلبون ربح تجارة أو رضوان من الله.
"وَإِذَا حَلَلْتُمْ" : أي من إحرامكم.
"فَاصْطَادُوا" : أمر إباحة لا أمر إيجاب.
"وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ" : أي لا يحملنكم بغضاء قوم أن تعتدوا عليهم.
"أَن صَدُّوكُمْ" : أي لأجل أن صدوكم.
"الْبرِّ وَالتَّقْوَى" : البر كل طاعة لله ورسوله، والتقوى فعل ما أمر الله به ورسوله وترك ما نهى عنه الله ورسوله.
"الإِثْمِ" : المعصية والذنب، وهو كل ما حاك في الصدر، وكرهت أن يطلع عليه الناس.
"وَالْعُدْوَانِ" : التعدي في حدود الله.
"وَاتَّقُوا اللهَ" : خافوا عقابه بأن تطيعوه.
"إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" : لمن خالفه.
سبب نزول قوله سبحانه: "لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ"
أخرج ابن جرير الطبري عن عكرمة قال: قدم الحطم بن هند البكري المدينة في عير له يحمل طعاما فباعه، ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فبايعه وأسلم، فلما ولى خارجا نظر إليه فقال لمن عنده: "لقد دخل علي بوجه فاجر، وولى بقفا غادر"، فلما قدم اليمامة ارتد عن الإسلام، وخرج في عير له يحمل الطعام في ذي القعدة يريد مكة، فلما سمع به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تهيأ للخروج إليه نفر من المهاجرين والأنصار، ليقمعوه في عيره فأنزل الله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ" الآية، فانتهى القوم، وأخرج عن السدي نحوه.
سبب نزول قوله سبحانه: "وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ"
أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وأصحابه حيث صدهم المشركون عن البيت، وقد اشتد ذلك عليهم، فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: نصد هؤلاء كما صدوا أصحابنا. فأنزل الله "وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ" .. الآية.
المعنى الإجمالي:
هذا النداء الإلهي قد تضمن أمورا ذات خطر وشأن عظيم، وإليك بيانها بالتفصيل:
1- تحريم استحلال شعائر الله تعالى: وهي أعلام دينه من سائر ما فرض وأوجب ونهى وحرم، فلا يستحل ترك الصلاة، ولا صيام، ولا حج ، ولا اعتمار، ولا زكاة، ولا جهاد، ولا بر والدين، ولا صلة أرحام، ولا يستحل ما حرم الله من ربا وزنا، وكذب، وغش، وسرقة، وخيانة، وسب، وهتك عرض، إلى غير هذا مما هو واجب في الإسلام أو حرام، إذ كل ذلك من أعلام الدين وشرائعه.
2- إن ما نسخ من شعائر الدين هو الشهر الحرام وهو رجب كان محظورا القتال فيه، ثم نسخه الله تعالى بقوله: "الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ" وكذا سائر الأشهر الحرم، قد نسخ القتال فيها إذا قاتلنا العدو فيها. ومن المنسوخ هدي المشركين وقلائدهم، والمشركون أنفسهم حرم عليهم دخول المسجد الحرام، فكيف يبقى لهم قلائدهم التي كانوا يقلدون بها الإبل ليهدوها إلى الحرم. والهدي ما يهدونه إلى الحرم، والقلائد جمع قلادة ما يعلقونه على البعير أو الشاة إيذانا بأنه مُهدى إلى الحرم فلا يُتعرض له، وقد يعلق أحدهم لحاء من شجر الحرم فيحترم لذلك ولا يتعرض له. كان هذا قبل الإسلام، ثم نُسخ في الإسلام.
3- حرمة التعرض لقاصد البيت الحرام للعبادة والتقرب: للحصول على رضوانه إلا أن يكون هذا القاصد كافرا أو مشركا، فإنه لا يؤذن له بدخول الحرم.
4- إباحة الصيد لمن تحلل من إحرامه من المؤمنين: لأن المحرم لا يحل له الصيد حال إحرامه، كما لا يحل له أن يأكل ما صيد له وهو محرم، وهذا الحكم باق لم يطرأ عليهنسخ.
5- حرمة الاعتداء على العدو: فمن كان له عدو لايجوز له أن تحمله عداوته على ظلمه والاعتداء عليه إلا أن يظلم العدو فحينئذ يرد ظلمه واعتداؤه ولا حرج، وهذا معنى قوله تعالى في النداء: "وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا" وهذا تم في الحدييبية، إذ صد المشركون الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن العمرة، وتم صلح بينهم، المعروف بصلح الحدييبة، فحذر الله تعالى المؤمنين من أن يحملهم بغضهم وعداؤهم للمشركين الذين منعوهم من المسجد الحرام أن يعتدواعليهم بعد أن تم الصلح بينهم.
6-وجوب التعاون بين المؤمنين على البر والتقوى. أي على فعل الخيرات كالصدقات والمعونات المختلفة كالقرض والسلفة، والإحسان والمعروف، إذ كل هذا من البر، وأما التعاون على التقوى وهي طاعة الله ورسوله في الأمر والنهي فهو تعاون على إقامة الدين بكامله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن ترك واجب أو حق من الحقوق وجب على المؤمنين أن يتعاونوا على إقامة الواجبالذي تُرك، وعلى إحقاق الحق الذي هدر بينهم، لأنهم أمة واحدة.
7- حرمة التعاون على الإثم والعدوان، أما الإثم فهو كل كبيرة من كبائر الذنوب كالزنا والسرقة والغيبة والنميمة وترك الواجبات، وارتكاب المحرمات في المناكح والمطاعم والمشارب والملابس وغيرها، تلك هي الإثم الذي يحرم التعاون على إيجاده أو بقائه بين المؤمنين، أما العدوان فهو الظلم،وهو الاعتداء على أرواح الناس، أو أعراضهم، أو أموالهم، فلا يحل إعانة ظالم بحال من الأحوال، بل ولا الركون إليه، لقول الله تعالى: "وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ" والركون يكون بالميل إليه، والرضا بظلمه، وعدم نهيه عنه.
8- الأمر بتقوى الله عز وجل، إذ قال تعالى في آخر النداء: "وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" والأمر بالتقوى معناه الأمر بطاعة الله ورسوله، وأولي الأمر من المؤمنين، وتتحقق التقوى بفعل ما يأمر الله بهويأمر به رسوله من الواجبات والمندوبات، وبترك ما نهى الله عنه، ونهى عنه رسوله من الاعتقادات الباطلة، والأقوال السيئة، والأفعال الضارة الفاسدة، وختم تعالى مضمون هذا النداء العظيم بقوله: "إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" ليحذر المؤمنين من عدم النهوض بما تضمنه هذا النداء من الأوامر والنواهي فإنهم إن أهملوا ما كلفوا به ستنزل بهم عقوبة الله فيندمون ولا ينفعهم ندم. ألا فلنحذر عذاب الله يا عباد الله، والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب. !!
ما يستفاد من الآيات:
1- وجوب احترام شعائر الله كلها، وهي أعلام دينه من سائر ما فرض وأوجب ونهى وحرم، فلا يستحل ترك الصلاة ولا الصيام، ولا الحج وغيره من شعائر الله، ولا استحلال ما حرم الله من ربا وزنا وسرقة وغير ذلك.
2- حرمة التعرض لقاصد البيت للعبادة والتقرب إلى الله.
3- إباحة الصيد لمن تحلل من إحرامه.
4- حرمة الاعتداء مطلقًا حتى على الكافر.
5- وجوب التعاون على البر والتقوى .
6- حرمة التعاون على الإثم والعدوان.
7- الأمر بتقوى الله سبحانه اتباعا للأوامر واجتنابا للنواهي.
8- التحذير من عقوبة الله لمن لم يلتزم بما أمر الله فيعلمه، أو ما حرم الله فيتركه.