نداءات الرحمن لأهل الإيمان _النداء الثالث والستون ( وجوب الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم )

الوصف
النداء الثالث والستون
وجوب الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلاَ أَن تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا﴾ (الأحزاب: 53)
* موضوع الآية:
وجوب الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرمة أذيته، وحرمة نكاح نسائه بعده صلى الله عليه وسلم، ووجوب الحجاب.
* معاني الكلمات:
(إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ): لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يصرح لكم بالدخول بأن يدعوكم إلى طعام.
(غَيْرَ نَاظِرِينَ): أي غير منتظرين وقت نضجه، أي فلا تدخلوا قبل وقت إحضار الطعام وتقدم المدعوين إليه، بأن يستغل أحدكم الإذن بالدعوة للطعام فيأتي قبل الوقت، ويجلس في البيت، فيضايق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا): أي إذا أكلتم الطعام وفرغتم فانتشروا عائدين إلى بيوتكم وأعمالكم، ولا يبق منكم أحد.
(وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ): أي ولا تمكثوا مستأنسين لحديث بعضكم بعضا.
(إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ): أي ذلكم المكث في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤذي النبي.
(فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ): أي أن يخرجكم.
(وَاللهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ): أي لا يترك بيان الحق، وهو الأكر بخروجكم.
(وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا): أي سألتم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، شيئا محتاجًا إليه من أواني البيت أو غيرها فينفع به.
(فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ): أي ستر مثل الباب والرداء ونحوه.
(ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ): من الخواطر الشيطانية المريبة.
(وَمَا كَانَ لَكُمْ): أي وما صح لكم.
(أَن تؤْذُوا رَسُولَ اللهِ): أن تفعلوا ما يكرهه.
(إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا): أي أذاكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند الله ذنبًا عظيمًا.
* سبب النزول:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا): أخرج أحمد والشيخان وابن جرير والبيهقي وابن مردويه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، دعا القوم فطعموا، ثم جلسوا يتحدثون، فإذا كأنه يتهيأ للقيام، فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام وقام من قام وقعد ثلاثة ثم انطلقوا، فجئت: فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم انطلقوا، فجاء حتى دخل وذهبت أدخل، فألقى الحجاب بيني وبينه، وأنزل الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ) إلى قوله (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا) .
وأخرج البخاري وابن جرير عن أنس رضي الله قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب. فأنزل الله آية الحجاب في صبيحة عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة، وهي مما وافق تنزيلها قول عمر، كما في الصحيحين عنه، قال: وافقت ربي عز وجل في ثلاث قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى. فأنزل الله (وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) (البقرة: 125)، وقلت: يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فول حجبتهن. فأنزل الله آية الحجاب، وقلت لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لما تمالأن عليه في الغيرة: (عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ)(التحريم: 5) فنزلت كذلك.
* المناسبة:
بعد بيان حال النبي صلى الله عليه وسلم مع أمته بأنه المبشر المنذر الداعي إلى الله تعالى، أبان تعالى حال المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكما أن دخولهم الدين كان بدعوته، كذلك لا يكون دخول بيته إلا بدعوته، إرشادًا إلى الأدب معه واحترامه وتوفير راحته في بيته، ثم تعظيمه بين الناس بالأمر بعد هذه الآيات بالصلاة والسلام عليه، ولا يقتصر الأدب معه على الدخول إلى بيته، بل يشمل الخروج منه بعد انتهاء الحاجة من استفتاء أو تناول طعام، فذلك حق وأدب، ثم ذكر الله سبحانه أدبًا آخر، وهو طب شيء من الحوائج من نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع وجود حجاب أو ستر أو حائل. ومناسبة هذا لما قبله أنه لما منع الله الناس من دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في ذلك تعذر الوصول إلى استنعارة بعض الحوائج، بين أن ذلك غير ممنوع منه وإنما يجب أن يكون السؤال والطلب من وراء حجاب، أي ستر: كباب ونحوه. فالحجاب أطيب وأطهر للنفس، وأبعد عن الريبة والتهمة والفتنة، وأكثر طمأنينة للقلوب من الهواجس والوساوس الشيطانية.
* المعنى الإجمالي:
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في دخول بيته، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ) أي لا تدخلوها بغير إذن للدخول فيها، لأجل الطعام. وأيضا (غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ) أي منتظرين استواءه ومتحينين نضجه – أو سعة صدر بعد الفراغ منه – والمعنى: أنكم لا تدخلوا بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا بشرطين – الإذن لكم بالدخول، وأن يكون جلوسكم بمقدار الحاجة، ولهذا قال: (وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) أي قبل الطعام وبعده، ثم بين سبحانه حكمة النهي وفائدته فقال: (إِنَّ ذَلِكُمْ) أي انتظاركم الزائد على الحاجة (كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ) أي يتكلف منه ويشق عليه حبسكم إياه عن شئون بيته وإشغاله فيه (فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) أن يقول لكم: اخرجوا. كما هو جاري العادة أن الناس وخصوصًا أهل الكرم منهم يستحيون أن يخرجوا الناس عن مساكنهم (و) لكن ( اللهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) فالأمر الشرعي ولو كان يتوهم أن تركه أدبًا وحياء، فإن الحزم كل الحزم اتباع الأمر الشرعي، وأن يجزم أن ما خالفه ليس من الأدب في شيء، والله تعالى لا يستحي أن يأمركم بما فيه الخير لكم والرفق لرسوله كائنا ما كان، فهذا أدبهم في الدخول في بيته قال القرطبي: "هذا أدب، أدب الله به الثقلاء"، وفي كتاب الثعلبي: حسبك من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم. وأما أدبهم معه في خطاب زوجاته فإنه إن احتيج إليه كان يسألهن متاعًا أو غيره من أواني البيت أو نحوها، فإنهن يسألن ( مِن وَرَاءِ حِجَابٍ) أي يكون بينكم وبينهن ستر يستر عن النظر لعدم الحاجة إليه، فصار النظر إليهن ممنوعًا بكل حال، وكلامهن فيه التفصيل الذي ذكره الله، ثم ذكر تعالى حكمة ذلك بقوله (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) لأنه أبعد عن الريبة، وكلما بعد الإنسان عن الأسباب الداعية إلى الشر فإنه أسلم له وأطهر لقلبه، فلهذا من الأمور الشرعية التي بين الله كثيرًا من تفاصيلها، أن جميع وسائل الشر وأسبابه ومقدماته ممنوعة، وأنه مشروع البعد عنها بكل طريق، ثم قال كلمة جامعة وقاعدة عامة (وَمَا كَانَ لَكُمْ) يا معشر المؤمنين أي غير لائق ولا مستحسن منكم، بل هو أقبح شيء- ( أَن تؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) أي أذية قولية أو فعلية بجميع ما يتعلق به، ( وَلاَ أَن تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا) هذا من جملة ما يؤذيه، فإنه صلى الله عليه وسلم له مقام التعظيم بالرفعة والإكرام. وتزوج زوجاته بعده مخل بهذا المقام، وأيضًا فإنهن زوجاته في الدنيا والآخرة، والزوجية باقية بعد موته صلى الله عليه وسلم، فلذلك لا يحل نكاح زوجاته بعده لأحد من أمته، وهو كالوالد وزوجاته كالأمهات للمؤمنين فهل يليق بكم أن تؤذوه في نفسه أو أهله.
( إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا) ذنبًا عظيما، وقد امتثلت هذه الأمة هذا الأمر واجتنبت ما نهى عنه منه، ولله الحمد والشكر.
قال أبو السعود: وفيه من تعظمه سبحانه لشأن رسوله صلى الله عليه وسلم وإيجاب حرمته حيًا وميتًا ما لا يخفى.
* ما يستفاد من الآيات:
1- بيان ما ينبغي للمؤمنين أن يلتزموه من الآداب في الاستئذان والدخول على البيوت لحاجة الطعام ونحوه.
2- بيان كمال ما ينبغي للمؤمنين أن يلتزموه من الآداب في الاستئذان والدخول على البيوت لحاجة الطعام ونحوه.
3- وصف الله تعالى نفسه بأنه لا يستحي من الحق أن يقوله ويأمر به عباده.
4- جواز مخاطبة الأجنبية من وراء حجاب: ستر ونحوه.
5- حرمة أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنها جريمة كبرى، لا تعادل بأخرى.
6- بيان أن الإنسان لا يخلو من خواطر السوء إذا كلم المرأة ونظر إليها.
7- حرمة نكاح أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته وحرمة الخاطر يخطر بذلك.
8- مشروعية الحجاب وفرضيته، وأن لا يحل لغير المحرم أن يخلو بامرأة من غير محارمه، أو يتكلم معها بدون الحجاب.
9- أن الحجاب وسيلة ناجحة في طهارة القلب من هواجس السوء وخواطر المعصية، سواء للرجال أو النساء، فذلك أنفى من الريبة، وأبعد للتهمة، وأقوى من الحماية والتحصن. وهذا يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه من الخلوة مع من لا تحل له، فإن مجانبة ذلك أحسن لحاله، وأحسن لنفسه، وأتم لعصمته، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والدخول على النساء" ((وذلك فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي عن عقبة عن عامر وقد قال أحد السلف: آمن نفسي على كذا من خزائن الذهب والفضة، ولا آمن نفسي على أمة سوداء.