نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء الرابع والعشرون (في وجوب التثبت والتبين في الأمور التي يترتب على الخطأ فيها ضرر بالغ وعظيم)

نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء الرابع والعشرون (في وجوب التثبت والتبين في الأمور التي يترتب على الخطأ فيها ضرر بالغ وعظيم)
287 0

الوصف

نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء الرابع والعشرون (في وجوب التثبت والتبين في الأمور التي يترتب على الخطأ فيها ضرر بالغ وعظيم)

النداء الرابع والعشرون

ضرورة التثبت في الأحكام

قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا"

المفردات:

"إِذَا ضَرَبْتُمْ" : خرجتم تضربون الأرض بأرجلكم غزاة ومسافرين.

"فِي سَبِيلِ اللهِ" : سافرتم للجهاد في سبيل الله.

"فَتَبَيَّنُوا" : فتثبتوا حتى لا تقتلوا مسلما تحسبونه كافرا، والمراد تحققوا من الأمر ولا تتسرعوا في الحكم.

"السَّلاَمَ" : التحية أو الاستسلام والانقياد.

"تَبْتَغُونَ" : تطلبون –عرض الحياة الدنيا- متاعها الزائل.

"فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ" : بالهداية فاهتديتم، وأصبحتم مسلمين.

"عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" : متاعها الزائل الفاني من الغنيمة.

"مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ" : أي أرزاق ونعم كثيرة، تغنيكم عن قتل شخص لماله.

"كَذَلِكَ كُنْتُم مِّن قَبْلُ" : تعصم دماؤكم وأموالكم بمجرد النطق بالشهادة.

"فَتَبَيَّنُوا" : أن تقتلوا مؤمنا، وافعلوا بالداخل في الإسلام كما فعل بكم.

"إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا" : فيجازيكم به.

بين يدي الآية :

أن الله تعالى لا ينادي عباده المؤمنين إلا ليأمرهم بما فيه سعادتهم وكمالهم، وينهاهم عما فيه شقاؤهم وخسرانهم، وذلك لولايتهم له حيث آمنوا به وبلقائه، وبكل ما أمرهم أن يؤمنوا به، واتقوه بفعل أوامره واجتناب نواهيه، إذ بذلك تطهر أرواحهم وتزكوا نفوسهم، والله يحب التوابين إليه والمتطهرين من أجله.

ولك أن تعلم أيها القارئ الكريم أن ما شرعه الله تعالى من عباداته، إنما شرعه لتزكية نفوس عباده وتطهيرها، ليقبلها ويرضى عنها، وأن ما حرمه على عباده ونهاهم عنه سواء كان اعتقادا أو قولا أو عملا، إنما حرمه عليهم ونهاهم عنه من أجل أن لا تخبث أرواحهم وتتدسى نفوسهم فيكرهها ويبغضها، ولا يأذن لها بدخول الجنة حتى لا تنعم برضاه والنظر إلى وجهه الكريم فيها. واقرأ لهذه الحقيقة قوله تعالى: "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا" وقوله:"إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ" فالأبرار وهم المطيعون لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم في نعيم الجنة، وذلك لبرورهم، إذا البرور هو الطاعة. والفجار في جحيم النار لفجورهم وهو معصية الله ورسوله المنتجة لخبث النفس، وتدسيتها وعفنها، الأمر الذي يسخط الله تعالى عليها ومن سخط الله عليه حرم عليه دخول الجنة دار الأبرار وأدخل النار دار العذاب والبوار، أعاذنا الله تعالى منها.

مناسبة الآية لما قبلها:

لما بين تعالى في الآية السابقة حكم نوعي القتل الخطأ والعمد، بين في هذه الآية نوعا من أنواع القتل الخطأ، الذي حصل بسبب التسرع بالحكم بعدم الإسلام على الرجل، وذكر القرطبي رحمه الله أن هذه الآية متصلة بذكر القتل والجهاد في الآيات السابقة.

سبب النزول:

رويت عنه روايات كثيرة، كلها تدور حول قتل مسلم أظهر إسلامه ساعة القتال، وهو في أرض المشركين، وإليك قصتها كما هي فانظرها واعتبر بها كما اعتبر بها الأولون، فَتَثَبَّتْ في كل خبر تسمعه، وفي كل عمل تشاهده، فلا تسارع في الحكم على الأشياء بدون ترو ولا بصيرة، فإنك تسلم من الأخطاء الضارة والمهلكة، فعن ابن عباس رضي الله عنه (مر رجل من بني سليم بنفر ن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسوق غنما له، فسلم عليهم، فقالوا: ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا، فعمدوا إليه فقتلوه واستاقوا غنمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فنزلت الآية.

وروى البخاري مختصرا، وروى البزار مطولا عن ابن عباس – رضي الله عنهما-قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فيها المقداد بن الأسود فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأهوى إليه المقداد فقتله، فقال له رجل من أصحابه: أقتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله، والله لأذكرن ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما قدموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله إن رجلا شهد أن لا إله إلا الله فقتله المقداد. فقال: " ادعوا لي المقداد" فدعوه، فجاء فقال له: "يا مقداد أقتلت رجلا يقول لا إله إلا الله، فكيف لك بلا إله إلا الله غدا؟" فقال: فأنزل الله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا ..." إلى آخر الآية، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم للمقداد: "كان رجل مؤمنا يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته، وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل".

المعنى الإجمالي:

أن ما شرعه الله تعالى من عباداته، إنما شرعه لتزكية نفوس عباده وتطهيرها، ليقبلها ويرضى عنها، وأن ما حرمه على عباده ونهاهم عنه سواء كان اعتقادا أو قولا أو عملا، إنما حرمه عليهم ونهاهم عنه من أجل أن لا تخبث أرواحهم وتتدسى نفوسهم فيكرهها ويبغضها، ولا يأذن لها بدخول الجنة حتى لا تنعم برضاه والنظر إلى وجهه الكريم فيها. واقرأ لهذه الحقيقة قوله تعالى: "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا" وقوله: "إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ" فالأبرار وهم المطيعون لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم في نعيم الجنة، وذلك لبرورهم، إذا البرور هو الطاعة. والفجار في جحيم النار لفجورهم وهو معصية الله ورسوله المنتجة لخبث النفس، وتدسيتها وعفنها، الأمر الذي يسخط الله تعالى عليها ومن سخط الله عليه حرم عليه دخول الجنة دار الأبرار وأدخل النار دار العذاب والبوار، أعاذنا الله تعالى منها.

إذا عرفت هذا سهل عليك أن تفهم قوله تعالى في هذا النداء: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ" أي غزاة ماشين لطلب العدو الكافر المحارب "فَتَبَيَّنُوا" أي تتثبتوا ولا تتعجلوا "وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ" أي سلم عليكم أو أسلم بأن نطق بالشهادتين "لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" وتقتلوه رغبة في المال الذي عنده من غنم يسوقها أو غيرها من أنواع المال، فلا تفعلوا مرة أخرى مثل هذا، وإن كانت لكم رغبة في الغنيمة "فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ" لا غنيمة واحدة، فاطلبوها برضاه لا بسخطه، واذكروا حالكم قبل إسلامكم، فإنكم كنتم مثل هذا الذي قتلتموه، لا تملكون إلا النطق بالشهادتين "كَذَلِكَ كُنْتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ" أي بنعمة الهداية إلى الإسلام ومعرفة قواعده وشرائعه، إذا "فَتَبَيَّنُوا" إن حصل لكم مثل هذا الموقف وراقبوا الله تعالى في أقوالكم وأعمالكم، فلا تخرجوا عن طاعته عز وجل بحال من الأحوال "إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا"

ما يستفاد من الآية:

1- مشروعية السير في سبيل الله غزوًا وجهادًا.

2- وجوب التثبت والتبين في الأمور التي يترتب على الخطأ فيها ضرر بالغ.

3- ذم الرغبة في الدنيا، لاسيما إذا كانت تتعارض مع التقوى.

4- الاتعاظ بحال الغير والاعتبار بالأحداث المماثلة.

5- الوعد والوعيد في قوله سبحانه: "إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا" إنه سبحانه سيجازي كلا بعمله إن خيرا فخيرا وإن شرا فشر.

6- قال ابن عاشور في قوله سبحانه: "كَذَلِكَ كُنْتُم مِّن قَبْلُ" زيادة في التوبيخ، أي كنتم كفارا فدخلتم الإسلام بكلمة الإسلام، فلو أن أحدا أبى أن يصدقكم في إسلامكم أكان يرضيكم ذلك.

وهذه تربية عظيمة، وهي أن يستشعر الإنسان عند مؤاخذته غيره أحوالًا كان هو عليها تساوى أحوال من يؤاخذه كمؤاخذة المعلم التلميذ بسوء إذا لم يقصر في إعمال جهده، وكذلك هي عظة لمن يمتحنون طلبة العلم فيعتادون التشديد عليهم وتطلب عثراتهم، وكذلك ولاة الأمور وكبار الموظفين في معاملة من بنظرهم من صغار الموظفين، وكذلك الآباء مع أبنائهم إذا بلغت بهم الحماقة أن ينتهروهم على اللعب المعتاد أو على الضجر من الآلام.

وقد دلت الآية على حكمة عظيمة في حفظ الجامعة الدينية، وهي بث الثقة والأمان بين أفراد الأمة، وطرح ما من شأنه إدخال الشك؛ لأنه إذا فتح هذا الباب عسر سده.

وكما يتهم المتهم غيره، فللغير أن يتهم من اتهمه، وبذلك ترتفع الثقة، ويسهل على ضعفاء الإيمان المروق، إذ قد أصبحت التهمة تظل الصادق والمنافق، وأنظر معاملة النبي صلى الله عليه وسلم، (للمنافق معاملة المسلمين)، على أن هذا الدين سريع السريان في القلوب، فيكتفي أهله بدخول الداخلين فيه من غير مناقشة، إذ لا يلبثون أن يألفوه وتخالط بشاشته قلوبهم، فهم يقتحمونه على شك وتردد فيصير إيمانا راسخا، ومما يعين على ذلك ثقة السابقين باللاحقين بهم.

ومن أجل ذلك أعاد اللة الأمر فقال فتبينوا تأكيدا، لتبينوا المذكور قبله وذيله بقوله "إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا" وهو يجمع وعيدا ووعدًا.