نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء السابع والثلاثون (في حرمة تحريم ما أحل الله من الطيبات وحرمة الاعتداء في الدين)

نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء السابع والثلاثون (في حرمة تحريم ما أحل الله من الطيبات وحرمة الاعتداء في الدين)
450 0

الوصف

نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء السابع والثلاثون (في حرمة تحريم ما أحل الله من الطيبات وحرمة الاعتداء في الدين)

النداء السابع والثلاثون:

حرمة تحريم ما أحل الله من الطيبات
قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلاَلًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ" (المائدة:87-88).

موضوع الآيات: حرمة تحريم ما أحل الله من الطيبات وحرمة الاعتداء في الدين.

معاني الكلمات:

"لاَ تُحَرِّمُوا" : التحريم المنع أي لا تمنعوا.

"طَيِّبَاتِ" : هو ما تستطيبه الأنفس، وهي ما لذ وطاب من الحلال.

"مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ" : أي ما أباح لكم وأذن لكم فيه من نكاح وطعام وشراب.

"حَلاَلًا طَيِّبًا" : مباحا غير مستقذر ولا مستخبث.

سبب النزول:

أخرج البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال جاء ثلاثة رهط إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالوهم فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له من ذنبه ما تقدم وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر، وقلا آخر: أما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ ابن حبان الأنصاري عن عكرمة أن عثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب وابن مسعود والمقداد بن الأسود وسالمًا مولى أبي حذيفة، وقدامة تبتلوا فجلسوا في البيوت واعتزلوا النساء ولبسوا المسموح، وحرموا الطيبات من الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل، وهموا بالاختصاء، وأجمعوا على القيام بالليل وصيام النهار، فنزلت الآية "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ" فلما نزلت بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن لأنفسكم حقا وإن لأعينكم حقا، وإن لأهلكم حقا، فصلوا وناموا وصوموا وأفطروا، فليس منا من ترك سنتنًا فقالوا: اللهم صدقنا وأتبعنا ما أنزلت على الرسول".

المناسبة:

بعد أن مدح الله سبحانه النصارى: بأنهم أقرب الناس مودة للمؤمنين، وذكر من أسباب ذلك أن منهم قسيسين ورهبانا. ظن المؤمنون أن في هذا ترغيبا في الرهبانية، وظن الميالون للتقشف والزهد أنها منزلة تقربهم إلى الله، ولن تتحقق إلا بترك التمتع بالطيبات من الطعام واللباس والنساء: إما دائما كامتناع الرهبان من الزواج. وإما في أوقات معينة كأنواع الصيام التي ابتدعوها. فأزال الله سبحانه هذا الظن وقطع عرق هذا الوهم بذلك النهي الصريح.

المعنى الإجمالي:

يقول تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ" من المطاعم والمشارب، فإنهما نعمة أنعم الله بها عليكم فاحمدوه، إذْ أحلها لكم، واشكروه ولا تردوا نعمة بكفرها أو عدم قبولها أو اعتقاد تحريمها، فتجمعوا بذلك بين قول الكذب على الله –وكفر النعمة- واعتقاد الحلال الطيب حرامًا خبيثًا، فإن هذا من الاعتداء، والله قد نهى عن الاعتداء، فقال "إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" بل يبغضهم ويمقتهم ويعاقبهم على ذلك.

 ثم أمر بضد ما عليه المشركون، الذين يحرمون ما أحل الله تعالى، فقال: "وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلاَلًا طَيِّبًا" أي كلوا من رزقه الذي ساقه إليكم بما يسره من الأسباب، إذا حلالًا لا سرقة ولا غصبا –ولا غير ذلك- من أنواع الأموال التي تؤخذ بغير حق، وكان أيضا طيبًا، وهو الذي لا خبث فيه، واتقوا الله في امتثال أوامره واجتناب نواههيه الذين أنتم به مؤمنون، فإنه إيمانكم بالله يوجب عليكم تقواه ومراعاة حقه فإنه لا يتم إلا بذلك، ودلت الآية الكريمة على أنه إذا حرم حلالًا بتحريمه، لكن لو فعله فعليه كفارة يمين كما قال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ" (التحريم:1)، إلا أن تحريم الزوجة فيه كفارة ظهارة، ويدخل في الآية أنه لا ينبغي للإنسان أن يتجنب الطيبات ويحرمها على نفسه، بل يتنازلها مستعينا، بها على طاعة ربه.

وأخيرا أمرهم تعالى – وهو أمر لكل مؤمن ومؤمنة ممن نزلت فيهم الآية ومن غيرهم إلى يوم القيامة أمرهم بتقوى الله (عز وجل) وذلك بطاعته فيما حرم وأحل، وفيما أمر ونهى من سائر ما حواه شرعه وبينه رسوله محمد صلى الله عليه وسلم . وقوله: "الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ" تذكير لهم بإيمانهم به سبحانه وتعالى، فإن من آمن بالله وعرف صفات جلاله وكماله من قدرة وعلم وحكمة ورحمة لا يخطر بباله معصيته فضلا عن أن يعصيه، فكيف تجرءون على تحريم ما أحل، ولم يوبخهم سبحانه وتعالى في هذا التوجيه، لأنهم ما حرموا ما حرموا على أنفسهم لا على غيرهم إلا طلبا لمرضاته وسعيا وراء حبه سبحانه وتعالى.

هذا واعلم أيها القارئ الكريم أن هذه الآية تَرُدُّ على غلاة الْمُتَرَهْبِنِينَ وأهل البطالة من بعض المتصوفين الذين يلبسون الصوف لا غير ويمتنعون عن لذيذ الطعام والشراب.

واعلم أيضا أن من حرم ما أحل الله لا يحرم عليه ما حرمه إلا الزوجة، فإنها إذا حرمها تحرم، فمن قال لزوجته أنت علي حرام وأراد طلاقها تطلقت، وإن لم يرد طلاقها كفر كفارة يمين وعادت إليه ولا تحرم عليه، فاذكر هذا والله ولي المتقين.

ما يستفاد من الآيات:

1- حرمة تحريم ما أباح الله كحرمة ما حرم الله عز وجل.

2- بيان مدى حرص الصحابة رضي الله عنهم على طاعة خوفًا من عقابه وطعمًا في ثوابه وإنعامه.

3- حرمة الغلو في الدين والتنطع فيه.

4- التحليل والتحريم تشريع، وهو من حقوق الله سبحانه، فمن انتحله لنفسه كان كالمدعي للربوية.

5- الإسراف مجاوزة النافع إلى الضار والحق إلى الباطل، وقد نهى الله سبحانه عنه، وأخبر سبحانه أنه لا يحب المسرفين وقد قال صلى الله عليه وسلم في ذلك:

1- "كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة"، (المخيلة): الكبر والعجب.

2- وقال ابن عباس رضي الله عنه في رواية للبخاري: كل ما شئت وألبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان: سرف، ومخيلة.

3- كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير مخيلة ولا إسراف، فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده.

4- عليكم بثياب البياض فالبسوها، فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيما موتاكم.

5- قال بعض السلف: جمع الله الطب كله في نصف آية: "كلوا واشربوا ولا تسرفوا".

ذم العزوبة:

أخبرج عبد الرزاقعن عمر بن الخطاب أنه قال لرجل: أتزوجت؟ قال: لا. قال: إما أن تكون أحمق، وإما أن تكون فاجرًا.

وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن إبراهيم بن ميسرة قال: قال لي طاوس: لتنكحن أو لأقول لك ما قال عمر لأبي الزوائد: ما يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور.

أخرج ابن سعد وابن أبي شيبة عن شداد بن أوس أنه قال: زوجوني، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاني أن لا ألقى الله عزبا. وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال، قال معاذ في مرضه الذي مات فيه: زوجوني، إني أكره أن ألقى الله عزبا.

الحث على الزواج:

أخرج سعيد بن منصور وأحمد والبيهقي عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالباءة، وينهانا عن التبتل نهيًا شديدًا، ويقول: "تزجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة".