كتاب القرآن ونقض مطاعن الرهبان-الفصل التاسع نقض المطاعن الفنية (حول الناسخ والمنسوخ في القرآن)

كتاب القرآن ونقض مطاعن الرهبان-الفصل التاسع نقض المطاعن الفنية (حول الناسخ والمنسوخ في القرآن)
182 0

الوصف

                                                   الفصل التاسع نقض المطاعن الفنية 

                                                  (حول الناسخ والمنسوخ في القرآن)

خَصصَ الفادي المفترِي حَيِّزاً كبيراً من كتابِه للاعتراضِ على النسخِ في القرآن، وإِثارةِ الشبهاتِ والإِشكالاتِ عليه.

وجَعَلَ تلك الاعتراضاتِ في المباحثِ التالية: عُيوبُ الناسخِ والمنسوخ .. وأَمثلةٌ للناسخِ والمنسوخ.

والأَسبابُ الحقيقيةُ للناسخِ والمنسوخ . وبدأَ كلامَه بذكرِ أَربعةِ آياتٍ أَخبرتْ عن النسخِ في القرآن، هي: سورة البقرة: ١٠٦. وسورة النحل: ١٥١. وسورة الرعد: ٣٩. وسورة الحج: ٥٢. وتحتَ عنوان: " عُيوب الناسخِ والمنسوخ " سَجَّلَ ستةَ عيوبٍ لوجودِ النسخ في القرآن! وادَّعى أَنَّ القرآنَ وحْدَه الذي فيه ناسخٌ ومنسوخ، من بينِ سائرِ الكتبِ الدينية، ووجودُ النسخ في القرآن دَليلٌ على أَنه ليس كلامَ الله، لأَنَّ " كَلامَ اللهِ الحقيقيَّ لا يَجوزُ فيه الناسخُ والمنسوخ ".

ولا يهمُّنا البحثُ عن الناسخِ والمنسوخِ في التوراةِ والإِنجيل، وإِنما يهمُّنا ثقريرُ الأَساسِ المنطقيِّ المنهجيِّ للنظرِ إِلى النسخِ في القرآن، فالنسخُ في القرآنِ ليس مشكلة، ولا يَتناقَضُ مع العقلِ والمنطق، فاللهُ هو الحاكمُ المشرعُ سبحانه، يُشَرِّعُ ما شاءَ من الأَحكام وفقَ حكمَتِه سبحانه، ويَجعلُ بعضَ تلك الأَحكامِ موقوتةً بزمنٍ محدَّد، وفقَ حكمتِه سبحانه، وعندما يَنتهي ذلك الزمنُ ويُحقِّقُ ذلك الحكمُ هَدَفَه يَنسخُه اللهُ ويُلْغيه، وفقَ حكمتِه سبحانه.

فالحكْمُ السابقُ شَرَعَه الله، والحكمُ الناسخُ له فيما بعد شَرَعَه الله، وبما أَنَّ الناسخَ والمنسوخَ من عندِ الله، فاللهُ الحكيمُ العليمُ يَفعلُ ما يشاء، لا رادَّ لأَمْرِه، ولا مُعَقِّبَ لحكْمِه.

وهذا معناه أَنَّ الفادي المفترِي كاذبٌ في زعمِه أَنَّ كلامَ اللهِ الحقيقيَّ لا يَجوزُ فيه النسخ.

وبعد هذه المقدمةِ العقليةِ المنهجيةِ نَبحثُ عن النسخ في القرآن، هل تَحَدَّثَ القرآنُ عن النسخ؟ فإذا وردتْ آيةٌ واحدةٌ في القرآن، فإِنها كافيةٌ لإِثباتِ النسخِ وإِيمانِنا به، لأَنَ القرآنَ يُعلِّمُنا المنهجيةَ العلمية، ويَجعَلُ عُقولَنا تَابعةً لكلامِ الله، فاهمةً متدبِّرَةً له، تَدورُ معه حيثُ دار، وتَقولُ بما قالَ به، وتُؤمِنُ بما وردَ فيه، ولا يَجوزُ لأَيِّ عقلٍ أَن يكونَ فوقَ كلامِ الله، وأَنْ يكونَ هو الحَكَمَ والمهيمنَ على كَلامِ الله.

أَكثرُ من آيةٍ قَررت النسخ، وجعلَتْه بيدِ الله، منها قولُه تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) ، فاللهُ هو الذي يَنسخُ الآيةَ أَو يُنْسِيْهَا، واللهُ هو الذي يأْتي بخيرٍ منها أَو مثلِها، واللهُ على كل شيء قديرٌ، وهو الحكيمُ الخبير.

ومنها قولُه تعالى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٠١)) .

إِننا نعتمدُ على هاتيْن الآيتيْن في إِيمانِنا بالنسخِ في القرآن، وفي فهمِنا للناسخِ والمَنسوخِ أولاً: لا عيوب في النسخ في القرآن: سَجَّلَ الفادي الجاهلُ ستةَ عيوبِ للنسخِ في القرآن. 

وهي لا تَصمدُ أَمامَ النظرِ والبحث، ولا تَثبتُ أَمامَ المنَهجيةِ والعلمية:

١ - اعتبرَ الجاهلُ النسخَ مُتَناقِضاً مع الحكمةِ والصدقِ والعلم، فقال: " لأَنَّ الناسخَ والمنسوخَ في كلام الله ضدّ حكمتِه وصدْقِه وعلْمِه، فالإِنسانُ القصيرُ النظرِ هو الذي يَضعُ قوانين، ويُغَيّرُها ويُبدلُها بحسبِ ما يَبدو له من أَحوالٍ وظروف. لكنَّ اللهَ يَعلمُ بكلِّ شيء قبلَ حدوثِه، فكيفَ يُقالُ: إِنَّ اللهَ يُغيرُ كلامَه ويبدلُه وينسخُه ويُزيلُه؟ أَليسَ من الأَوفقِ أَنْ ئنزهَ اللهَ فنقولَ: ليس اللهُ إِنْساناً فيكذب، ولا ابنَ إِنسانٍ فيندم؟! "

اعتبرَ الجاهلُ النسخَ ثمرةً للبَداء، وهو ظهورُ الشيء بعدَ خَفائِه، واللهُ منزَّهٌ عن البَداء، لأَنه سبحانه أَحاطَ بكلِّ شيء علْماً، وهو يعلمُ الشيءَ قبلَ حُدوثِه.

ومن جهلِ الفادي قياسُه فعْلَ اللهِ على فعْل الإِنسان، وعدمُ ملاحظتِه الفرق بينَ مَقامِ اللهِ وضَعْفِ الإِنسان.

فالإِنسانُ جاهلٌ قَصيرُ النظر، ولذلك يُغَيِّرُ ويُبَدّلُ في قوانينِه، بحسَب ما يَبدو له من علمٍ جَديد. ونسخُ اللهِ لبعضِ أحكامِه ليس من هذا الباب، فلا بَداءَ في علْمِ الله، وهو سبحانه يَجعلُ بعضَ أَحكامِه موقوتةً بزمنٍ مُحَدَّد، لتحقيق مصلحةِ المسلمين، فإِذا انتهى زَمَنُها نَسَخها وأَتى بأَحكامِ أُخْرى بَدَلَها. وهو العليمُ الخبيرُ الحكيم.

ويُشيرُ إِلى هذه الحقيقةِ قولُه تعالى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٠١)) .

فالآيةُ صريحةٌ في تَقريرِ حقيقةِ علْمِ اللهِ بما يُنزل، وجاءَ هذا التقريرُ في جملةٍ معترضةٍ للاستدراك (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ) . فالنسخُ والتبديلُ في الآياتِ مبنيّ على علْمِ اللهِ بما يُنزلُ قبلَ أَنْ يُنزلَه، فلا بِداءَ فيه.

٢ - ادَّعى الجاهلُ المفترِي أَنه لا يوجَدُ نَسخ في اليهوديةِ والنصرانية، ونَقَلَ كَلاماً منسوباً لعيسى - عليه السلام - في نفيِه.

قال: " لأَنَّ الناسخَ والمنسوخَ ليس له وُجود في اليهوديةِ ولا في المسيحية. قالَ المسيح: لا تَظنوا أَنِّي جئتُ لأَنقضَ الناموسَ أَو الأنبياء، ما جئتُ لأنقضَ بل لأُكملَ، فإِنِّي الحقَّ أَقولُ لكم: إلى أنْ تزولَ السمواتُ والأرضُ لا يَزولُ حرفٌ واحدٌ أَو نقطة واحدةٌ من الناموس، حتى يكونَ الكُلّ ".

وادّعاءُ الجاهلِ باطلٌ مردودٌ عليه، وهو مُفْتَرٍ في نفيِه النسخَ بين اليهوديةِ والنصرانيةِ، وقد نَسَخَ اللهُ برسالةِ عيسى - عليه السلام - بعضَ الأَحكامِ التي جعلَها على اليهود، وجاءَ هذا المعنى صريحاً في قولِه تعالى: (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠)) .