كتاب القرآن ونقض مطاعن الرهبان-الفصل التاسع نقض المطاعن الفنية (حول الاختلاف والتناقض في القرآن)

الوصف
الفصل التاسع نقض المطاعن الفنية
(حول الاختلاف والتناقض في القرآن)
أَخبرَ اللهُ أَنَّ القرآنَ ليسَ مُختلفاً ولا مُتناقضاً، ولو كانَ من عندِ غير اللهِ لكانَ فيه الكثيرُ من الاختلافِ والتناقض.
قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (٨٢)) .
ولكنَّ الفادي المجرمَ لم يُصَدِّق الآيةَ، وإِنما كَذَّبَها، وادَّعى أَنَّ القرآنَ مختل مُضطرب مُتناقض. وقالَ تحتَ عنوان: " الكَلامُ المختلف ": " جاءَتْ في القرآنِ اختلافاتٌ كثيرةٌ لاختلافِ قراءاتِه، وصارَتْ سُنَّة أَنَّ عباراتِ القرآنِ على سبعةِ أَحرفٍ أَو سبعةِ أَوجهٍ، حتى ليَصعبُ على الإِنسانِ أَنْ يُصدرَ حُكْماً صحيحاً، لعدمِ تأكيدِه إِلى أَيِّ قراءةٍ يَستند ... "
يَزْعُمُ المفترِي أَنَّ القراءاتِ تُؤَدّي إِلى الاختلافاتِ الكثيرةِ في القرآن. وكأَنَّ هذه القراءات من وَضْعِ واختيارِ البشر، وهذا زعمٌ باطل.
وإِنَّ القراءاتِ الصحيحةَ عَشْرُ قراءات، هي: قراءةُ ابنِ كثيرٍ المكي، ونافعِ المدني، وابنِ عامر الشامي، وأَبي عمرو البصري، وعاصمِ الكوفي، وحمزةَ الكوفي، والكسائي الكوفي، وأَبي جعفر المدني، ويعقوبَ البصري، وخَلَفٍ البغدادي.
وكُلُّ هذه القراءاتِ العشرِ أَنزلَها اللهُ على نبيِّه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فكلُّها كَلامُ اللهِ قَطْعاً.
وشروطُ القراءةِ الصحيحةِ ثلاثة: أَنْ تكونَ صحيحةَ السَّنَد، وأَنْ تُوافِقَ رَسْمَ المصحف العثماني، وأَنْ تُوافِقَ اللغةَ العربية. فإِذا اختلَّ واحِدٌ من هذه الشروطِ الثلاثة كانت القراءةُ شاذةً غيرَ صحيحة، وحكَمْنا بأَنها ليستْ قرآناً.
ولا اختلافَ بين القراءاتِ العشرِ كما زَعَمَ هذا الجاهل، لأَنها كُلها متوافقةٌ مع رسمِ المصحف، والخلافُ بينها يسيرٌ في بعضِ الحركاتِ أَو الحروف، وضمنَ المصحف، واللهُ أَنزلَ الآيةَ بأَكثرَ من قراءةٍ لحِكَمٍ عديدة.
وعلْمُ " القراءات " عِلْمٌ أَصيل، وقد حَصَرَ علماءُ القراءات تلكَ القراءات حَصْراً دَقيقاً مضبوطاً، وحَدّدوا كيفيةَ النطقِ بكلّ قراءة، وأَلَّفوا في ذلك العديدَ من الكتب، وصارَ بإِمكانِ أَيِّ قارئٍ للقرآن أَنْ يُتقنَ قراءةَ أَيِّ إِمامٍ من القُرّاءِ العشرة.
ولكنَّ الفادي الجَاهلَ محجوب عن هذا العلمِ، لكُفْرِه وحِقْدِه وجَهْلِه وغبائه. وكما اعترضَ الفادي الجاهلُ على القراءات اعترضَ على الأَحرفِ السبعة، التي أَنزلَ اللهُ القرآنَ عليها، واعتبرَها سَبَباً في وجودِ الاختلافِ والاضطرابِ في القرآن.
وقالَ في اعتراضه: " قال محمد: " هذا القرآنُ أُنزلَ على سبعةِ أَحرف، فاقرؤوا ما تيسَّرَ منه " قال محمدٌ هذا الكلامَ لعمرَ بن الخطّاب، لَمّا جاءَه عمرُ بهشامِ بنِ حكيم وقد لَبَّبَهُ بردائِه، لما سمعَهُ يقرأُ سورةَ الفرقان على غيرِ ما أَقرأَها محمدٌ لعُمَر. فقالَ عمرُ: يا رسولَ الله! إِني سمعتُ هذا يقرأُ سورةَ الفرقانِ على حروفٍ لم تُقْرِئْنيها. فقال له محمدٌ: " اقْرأَ يا هشام ".
فقرأَ عليه القراءةَ التي سمعَه عمرُ يقرؤُها. فقال محمد: " هكذا أُنزلَتْ! " ثم قالَ محمد: " اقرأْ يا عمرُ ".
فقرأَ بقراءَتِه التي أَقرأَه بها محمد، فقالَ محمدٌ: " هكذا أُنزلَتْ! " ثم قالَ: " إِنَّ هذا القرآنَ أُنزلَ على سبعةِ أَحرف، فاقرؤوأ ما تيسَّرَ منه! ". قالَ المفَسِّرون: سبعةُ أَحْرف. أَيْ: سبعةُ أَوْجُهٍ مختلفة، أَو سبعُ قراءاتٍ مختلفه ".
القصةُ التي ذَكَرَها الفادي صحيحة، وقد أَجازَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - قراءهً هشامِ بنِ حكيم، وأَجازَ قراءةَ عمرَ بنِ الخطاب - رضي الله عنه -، لأَنه أَقْرَأَ كُلَّ واحدٍ بما قرأَه، وكان الخلافُ بينَ قراءةِ هشام وقراءةِ عُمَر قليلاً، وعَلَّلَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - الاختلافَ بينهما بأَنَّ اللهَ أَنزلَ القرآنَ على سبعةِ أَحْرُف، وأَنه يَجوزُ قراءةُ القرآنِ بأَيِّ حرفٍ منها، وكلٌّ من عمرَ وهشامٍ قرشيٌّ، ومع ذلك قرأَ كُلُّ واحدٍ بقراءةٍ تَعَلَّمَها من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -.
والأَحْرفُ السبعةُ توقيفيةٌ، ولَيستِ اجتهاديةً باجتهادِ واختيارِ الصحابة، اللهُ هو الذي أَنزلَها للتيسيرِ على الناس، وأَجازَ القراءةَ بأَيِّ حرفٍ منها.
والراجحُ أَنَّ الأَحرفَ السبعةَ هي " وُجوهُ التغايرِ السبعة " في قراءةِ الكلمةِ القرآنية، بمعنى أَنَّ أَقْصى وجوهِ التغايرِ في قراءةِ الكلمةِ القرآنيةِ هو سبعةُ وجوه.
ومُعظمُ كلماتِ القرآنِ تُقرأُ على حرفٍ واحد، وبوَجْهٍ واحدٍ فقط، لكنَّ بعضَها قد يُقرأُ على حرفين أَو ثلاثة، ولا تَزيدُ أَوجُهُ قراءَتِه عن سبعةِ وُجوه.
والراجحُ أَنَّ الأَحرفَ السبعةَ موجودةٌ في القرآن، لم يُنسخْ ولم يُرفعْ منها شيء، وأَنَّ رسمَ المصحف زمنَ عثمانَ - رضي الله عنه - احْتَواها وضَمَّها، وهذه الأَحرفُ السبعةُ آلَتْ إِلى القراءاتِ العشرِ الصحيحة، التي رَصَدَها ولسَجَّلَها العلماء، وقرؤُوا بها القرآن.
وبهذا نَعرفُ أَنَّ الأَحرفَ السبعةَ والقراءاتِ العشرَ أَنزلَها اللهُ على رسولِه - صلى الله عليه وسلم -، وأَذِنَ للمسلمين القراءةَ بها، فهي كلامُ الله وليسَ تأليفَ المسلمين، وأَنَ رسمَ المصحفِ العثمانيِّ حوى وشملَ الأَحرفَ السبعةَ والقراءاتِ العشر، وأَنه يَجوزُ القراءةُ بأَي حرفٍ منها أَو أَيةِ قراءةٍ منها، وأَنَّ معظمَ كلماتِ القرآنِ لا تُقرأُ إِلّا على حرفٍ واحدٍ بقراءةٍ واحدة، وأَنها لا اختلافَ ولا تَعارضَ بينها، وأَنها تتكاملُ للدلالةِ على المعنى القرآني.
ونوردُ مثالاً على هذه القراءاتِ والأَحرفِ من سورةِ الفرقان لتتضحَ المسألة. قالَ تعالى: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (٢٥)) .
في كُلٍّ من (تَشَقَّقُ) و (نُزِّلَ) قراءتان: في " تَشَقَّقُ " قراءتان: الأُولى: قراءةُ عاصم وحمزة والكسائي وخلف وأَبي عمرو: " تَشَقَّقُ " بتَخفيفِ التاءِ والشينِ.
على أَنه فعلٌ مضارع، حُذِفَتْ منه التاءُ الأُولى، لأَنَّ أَصْلَه: تَتَشَقَّقُ، وماضيه: تَشَقَّقَ.
والمعنى: تَتَشَقَّقُ السماءُ بالغمام. الثانية: قراءةُ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبي جعفر ويعقوب: " تَشَّقَّقُ " بتشديدِ الشين، على إِدغامِ التاءِ الثانيةِ في الشّين، لأَنَّ أَصْلَه: تَتَشَقَّقُ.
والقراءتانِ متقاربتانِ متكاملتان ولَيْستا مختلفتَيْن أَو متناقضتين، فهما تَتفقان على أَنَ الفعلَ مضارع: " تَتَشَقَّقُ "، على وزْن " تَتَفَعَّلُ ". لكنَّ القراءةَ الأُولى حَذَفت التاءَ الأُولى للتخفيف، والقراءةُ الثانيةُ أَدغمت التاءَ الثانيةَ في الشينِ للتخفيف أَيضاً.
وفي " ونُزِّلَ الملائكة " قراءتان: الأُولى: قراءةُ ابنِ كثير المكي: " وَنُنَزِّلُ الملائكةَ " على أَنَّ الفعلَ المضارعَ مُسندٌ إِلى الله، و " الملائكةَ ": مفعولٌ به. المضارعَ مُسندٌ إِلى الله، و " الملائكةَ ": مفعولٌ به.
الثانية: قراءةُ التسعة - نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وأبي عمرو وأبي جعفر ويعقوب وخلف -: (وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ) .
على أَنه فعلٌ ماض مبنيٌّ للمجهول، و " الملائكةُ ": نائبُ فاعلٍ مرفوع. والمعنى: يُنَزَّلُ الملائكةُ تنزيلاً في ذلك اليوم.
والقراءَتان متكاملتان، وليستا مختلفتَيْن، فإِذا كانَ اللهُ يُنزلُ الملائكةَ تنزيلاً على قراءةِ ابن كثير، فإِنَّ الملائكةَ يُنَزَّلونَ تَنزيلاً في ذلك اليوم، على قراءةِ القراءِ التسعة.