كتاب التفسير والتأويل في القرآن -الفصل الثاني التفسير والتأويل في الأسلوب القرآني (المبحث الثاني: التأويل في الأسلوب القرآني (المطلب الثالث: مع التأويل في سورة الأعراف))

كتاب التفسير والتأويل في القرآن -الفصل الثاني التفسير والتأويل في الأسلوب القرآني (المبحث الثاني: التأويل في الأسلوب القرآني (المطلب الثالث: مع التأويل في سورة الأعراف))
118 0

الوصف

                                                  الفصل الثاني التفسير والتأويل في الأسلوب القرآني 

                         (المبحث الثاني: التأويل في الأسلوب القرآني (المطلب الثالث: مع التأويل في سورة الأعراف))

ورد التأويل مرتين في سورة الأعراف، والمرتان في آية واحدة، تتحدث عن يوم القيامة، الذي أخبر القرآن عن وقوعه وقدومه، ولكن الكفار أنكروا ذلك، ولم يصدّقوا بالآيات التي تخبر عنه.

قال تعالى: (ولَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلي عِلْمٍ، هُديً ورَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ؟ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ: قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ، فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ، فَيَشْفَعُوا لَنا، أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ، قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، وضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (١)).

المعنى الإجمالي للآيتين: 

تتحدث الآيتان عن القرآن، وعن تفصيله، وعن معانيه وأخباره ووعوده. لقد بعث الله محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولا، وأنزل عليه القرآن كتابا، ودعا الناس إلي الإيمان بهذا القرآن، وتصديق أخباره.

وأخبرت الآية الأولي أنّ الله جاء الناس بهذا القرآن، وجعله كتابا مفصّلا، تفصيلا لفظيا، وتفصيلا موضوعيا. تفصيله اللفظي تمثل في تقسيمه إلي سور، وتقسيم السورة منه إلي آيات، وتقسيم الآية إلي جمل وكلمات.

أما تفصيله الموضوعي فقد تمثّل في الموضوعات التي عرضها والمعاني التي قدّمها، والأخبار التي أخبر عنها، والحقائق التي قررها.

تفصيله الموضوعي في حديثه عن الدنيا والآخرة، عن الحياة والموت والبعث، وفي تقريره لحقائق العقيدة والشريعة والأخلاق ومناهج الحياة، وفي عرضه لمسيرة التاريخ من خلال قصصه، وفي ربطه لكل ما يجري في الكون والحياة والانسان بقدر الله وأمره ومشيئته سبحانه.

لقد فصّل الله القرآن بعلمه فَصَّلْناهُ عَلي عِلْمٍ، وجعله هدي يهتدي به المؤمنون، ورحمة يرحم به المؤمنين، عند ما يؤمنون به، ويتدبّرونه، ويلتزمون بتوجيهاته، وينفّذون أحكامه: هُديً ورَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.

هذا أثر القرآن في المؤمنين الذين صدّقوا بأخباره، وآمنوا بوعوده، فسعدوا في الدنيا، وفازوا وربحوا يوم القيامة. أما الكفار فإنهم لم يؤمنوا به، ولم يصدقوا بأخباره، التي تخبر عن البعث بعد الموت، وعن قدوم الساعة، ومجيء يوم القيامة، ولما سمعوا الآيات التي تتحدث عن ذلك كذبوا بها.

لقد أخبرت آيات القرآن عن مشاهد القيامة، وتحدثت عن نفخة البعث، وخروج الناس أحياء من قبورهم، وسوقهم الي أرض الموقف للحساب والجزاء، وعن الميزان والصحف والصراط، وعن النار وألوان عذابها، وأحوال الكفار فيها، وعن الجنة وأصناف نعيمها وسعادة المؤمنين فيها.

وهذه المشاهد لم تقع الآن، لأننا ما زلنا في الدنيا، لكنها ستقع حتما، لأن الله أخبر عن وقوعها، ولذلك آمن المؤمنون بذلك. أما الكفار فقد استبعدوا وقوعها واستهجنوه واستغربوه، ولذلك كفروا بها وأنكروها.

وهنا تهدّدهم الآية الثانية، وتبين لهم حالهم يوم القيامة، عند ما يتم تأويل أخبار القرآن ووعوده التي تتحدث عن يوم القيامة.

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ: «هل»: حرف للاستفهام. والاستفهام هنا إنكاري، إذ ينكر القرآن علي الكفار عدم إيمانهم بالقرآن، وعدم تصديقهم بوعوده.

و «ينظرون»: بمعني: ينتظرون: فهو من الانتظار وليس النظر. والهاء في «تأويله» تعود علي القرآن- وهو الكتاب المذكور في الآية السابقة.

فمعنى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ: لماذا لم يؤمن الكفار بالقرآن؟ ولماذا لم يصدّقوا بالآيات التي تتحدث عن يوم القيامة؟ ماذا ينتظرون؟ إنهم ينتظرون تأويل آيات القرآن، وينتظرون وقوع الأحداث يوم القيامة، التي تتحدث عنها الآيات، وينتظرون رؤية هذه الأحداث بعيونهم عند ما يبعثون من قبورهم.

هذا هو تأويل الآيات المخبرة عن يوم القيامة، وهو وقوعها فعلا وحقيقة، ومشاهدتهم لها. والدليل علي أن هذا هو معنى التأويل المذكور في الجملة هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ مجيء التفصيل بعد ذلك في الآية، مبينا لهذا الإجمال. 

يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ: يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ: قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ، فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ، فَيَشْفَعُوا لَنا، أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ.

والمعني: يوم القيامة يأتي تأويل آيات القرآن، التي تخبر عن مشاهد القيامة، وتأويلها هو وقوع هذه الأحداث والمشاهد فعلا، كما أخبرت آيات القرآن من قبل.

عند ذلك، وبعد ما يشاهد الكفار تأويل الآيات عمليا، ويرون الأحداث يوم القيامة عيانا، يقولون: قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ!!.

أي: كان الرسل صادقين معنا في الدنيا، عند ما أخبرونا عن أحداث الساعة، وكانت آيات القرآن صادقة عند ما تحدثت عنها، لقد جاءت الرسل بالحق، وتحدثت الآيات بالحق، بدليل أننا نري الآن حقيقة ما قالوه لنا، نراه عمليا أمامنا، فها هي الآيات قد تمّ تأويلها الآن. ونحن كنا مخطئين. عند ما كذّبنا بها في الدنيا.

فهل لنا من شفعاء، فيشفعوا لنا عند الله؟ ويدفعوا عنا عذاب الله؟ وينقذونا من النار؟ أو هل يمكن أن يردّنا الله إلي الدنيا، ويعيدنا إليها، ويعطينا فرصة أخري، لنؤمن بهذا الحق، ونعمل غير الذي كنا نعمل؟.

إنهم يتمنون هذه الأماني التي لن تتحقق، فلا شفاعة لهم، ولا رجوع إلي الدنيا. إنهم خاسرون هالكون معذبون: قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ.

التأويل مجيء يوم القيامة فعلا:

نستحضر تعريف الإمام الراغب للتأويل: «هو ردّ الشيء إلي الغاية المرادة منه، علما كان أو فعلا» لنري انطباق هذا التعريف علي التأويل المذكور في الآية.

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ، يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ.

تتكلم الآية عن تأويل القرآن- لأن الهاء في «تأويله» تعود علي الكتاب المذكور في الآية السابقة- وتدعو الكفار إلي انتظار تأويله، وتهددهم بما سيكون لهم يوم تأويله، وتريهم صورة عن العذاب الواقع بهم يوم تأويله.

فما المراد بتأويله؟ هل المراد بيان معاني آيات القرآن، وشرحها وتفسيرها؟ لا، لأنه لا دخل لبيان معاني الآيات بالعذاب الواقع بالكفار.

أي أنّ التأويل في الآية ليس بمعنى العلم، بل بمعنى الوقوع والحدوث، وبيان العاقبة والمآل.

أو: هو ردّ معاني الآيات إلي غايتها النهائية، وحقيقتها الفعلية المادية. تأويل القرآن المذكور في الآية، هو تحقق وقوع آياته التي تخبر وتتحدث عن مشاهد القيامة، وأحداث اليوم الآخر.

إن السياق الذي وردت فيه الآية يتحدث عن يوم القيامة. يبدأ الحديث عن يوم القيامة من الآية رقم (٣٤) من السورة، وينتهي بالآية رقم (٥٣).

تتحدث الآيات عن مشهد الحسرة والندامة، والتلاوم والتلاعن، بين الفريقين الاتباع والمتبوعين في جهنم، وعن العذاب الواقع بالفريقين، وعن خلودهم معذبين في النار. ثم تعرض مشهدا مقابلا للمؤمنين، وهم منعمون متحابّون في نعيم الجنة.

وتعرض الآيات لقطات حية متحركة مصورة، عن نداءات وحوارات بين أهل الجنة وأهل النار، وأصحاب الأعراف.

وينادي أصحاب الأعراف أصحاب الجنة مهنّئين لهم دخولهم الجنة، وعند ما تصرف أبصارهم تلقاء أصحاب النار، يتعوذون بالله منهم ومن تعذيبهم، ويسألون أشخاصا بأعيانهم من أهل النار سؤال تبكيت وتقريع.

ينادي أصحاب الجنة أصحاب النار، ويسألونهم سؤال استهزاء وتقريع وتبكيت، فيجيبهم أهل النار بذلة ومهانة.

وينادي أصحاب النار أصحاب الجنة، مستغيثين بهم، طالبين منهم شيئا من الماء أو الطعام، فيردّ عليهم أصحاب الجنة بأن الله حرم الجنة ونعيمها علي الكافرين، ويبقي الكافرون في العذاب مع حسرتهم وخزيهم.

فالآيات كلّها في السياق تتحدث عن يوم القيامة، ومشاهد نعيم المؤمنين في الجنة، وعذاب الكفار في النار.

ما موقف المؤمنين والكافرين في الدنيا من هذه الآيات، وما تقدمه من أخبار ووعود عن يوم القيامة وما فيه؟ أما المؤمنين فقد آمنوا بها، وصدّقوا بمضمونها، واعتقدوا وأيقنوا بوقوعها يوم القيامة. أي: أنهم آمنوا بحدوث مشاهد القيامة كما أخبرت هذه الآيات.

وأما الكافرون فقد كذّبوا بهذه الآيات، واستغربوا مضمونها، وأنكروا وقوع شيء مما تحدث عنه الآيات من مشاهد القيامة، ونفوا أن يكون بعث وحشر وحساب ونار ونعيم وعذاب! أي أن الكفار نفوا وقوع الصورة العملية

لمضمون الآيات النظري، وتحقق المدلول الواقعي للوعد والوعيد النظري.

فتأتي الآية الأخيرة في هذا السياق لتهدد الكفار المنكرين ليوم القيامة. فتأتي الآية الأخيرة في هذا السياق لتهدد الكفار المنكرين ليوم القيامة.

انتظروا تأويلها: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ. أي: انتظروا لحين قيام الساعة، وبدء مشاهد يوم القيامة، عند ذلك سيتم تأويل هذه الآيات التي تسمعونها الآن في الدنيا، وسيتحقق وقوع ما أخبرت عنه الآيات في صورة عملية. وستشاهدون صورة مادية واقعية لمضمون هذه الآيات النظري.

عندها، عند ما يتحقق تأويل هذه الآيات عمليا، ووقوع حقيقتها وغايتها المادية، ماذا سيكون وضعكم هناك؟ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ، فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ، فَيَشْفَعُوا لَنا، أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ؟.

إذن التأويل المذكور مرتين في هذه الآية من سورة الأعراف، هو ردّ معاني الآيات النظرية المخبرة عن مشاهد القيامة، إلي غايتها المادية، وحقيقتها الواقعية، وبيان بعدها الواقعي، وذلك عند بدء عرض مشاهد القيامة فعلا، ومعايشة الناس لها واقعا.

فتأويل هذه الآيات هو بيان مصيرها ومآلها ونهايتها، وتحويل وعدها النظري إلي صورته العملية، ورؤية حقيقتها المادية الواقعية، وذلك عند ما يعيشون فعلا مشاهد القيامة هناك!!.