كتاب التفسير والتأويل في القرآن -الفصل الثالث التأويل في كلام الرسول وأصحابه (المبحث الثاني: كيف كان الصّحابة يتأوّلون القرآن؟)

كتاب التفسير والتأويل في القرآن -الفصل الثالث التأويل في كلام الرسول وأصحابه (المبحث الثاني: كيف كان الصّحابة يتأوّلون القرآن؟)

الوصف

                                                 الفصل الثالث التأويل في كلام الرسول وأصحابه 

                                                 (المبحث الثاني: كيف كان الصّحابة يتأوّلون القرآن؟)

عرفنا من النماذج السابقة التي عرضناها كيف كان تأويل الرسول صلّى الله عليه وسلّم للقرآن، وأنّ تأويله لأوامره هو تنفيذها فعلا وتحقيقها في عالم الواقع.

وإذا أردنا أن نقف علي هذا اللون من تأويل الصحابة للقرآن، فإنه لا يخرج عن تأويل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أي أنهم كانوا ينفّذون أوامر النصوص عمليا أو يلاحظون صورتها المادية، ومآلها العملي المستقبلي.

من الأمثلة التي توضح ذلك:

١ - أخرج الإمام أحمد عن سعيد بن جبير أنّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يصلي حيثما توجهت به راحلته. ويقول: قد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفعل ذلك. ويتأوّل عليه قوله تعالى: ولِلَّهِ الْمَشْرِقُ والْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ.

إنّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يري جواز صلاة التطوع علي الراحلة حيثما توجّهت به الراحلة، ولا يشترط فيها استقبال القبلة، فلو صلّى التطوع إلي غير القبلة وهو علي راحلته صحت صلاته.

ويعتمد ابن عمر علي ظاهر الآية، فالآية تبين أنّ المشرق والمغرب لله، وأنّ المصلي نافلة أينما ولّي وجهه فهو يوليه الله، وصلاته مقبولة الله.

كما يعتمد ابن عمر على فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويقول: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفعله. أي: رأى الرسول صلّى الله عليه وسلّم يصلّي النافلة على الراحلة إلي غير القبلة.

والشاهد في هذا المثال في جملة: ويتأول عليه قوله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ. أي: كان ابن عمر يفهم من الآية هذا الفهم، ويعتبرها دليلا على جواز عدم استقبال القبلة في صلاة النافلة، وبعد ذلك كان يصلي كما فهم. فتأويل ابن عمر للآية هو فهمها أولا، ثم تطبيقها فعلا، وتحقيقها عمليا، وأداؤه صلاة النافلة وفق ما أذنت به.

٢ - روي الإمام البخاري عن ابن شهاب الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت: الصلاة أوّل ما فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر.

قال الزهري: فقلت لعروة: ما بال عائشة تتمّ؟ قال عروة: تأوّلت ما تأوّل عثمان! تروي عائشة رضي الله عنها أنّ الصلاة كانت ركعتين في السفر والحضر، عند ما فرضها الله على المسلمين، وبعد ذلك جعل الله صلاة الحضر أربع ركعات، وأبقي صلاة السفر ركعتين.

وفي كلامها إشارة إلي إنّ الأفضل للمسافر هو أن يقصر الصلاة الرباعية فيصليها ركعتين. ولكنّ عائشة كانت تسافر فتتمّ الصلاة ولا تقصرها، وهذا الفعل منها لا يتفق مع روايتها، فلماذا لا تقصر الصلاة؟ وقد لفت هذا نظر راوي الحديث ابن شهاب الزهري، فسأل شيخه عروة بن الزبير عنه: ما بال عائشة تتمّ الصلاة عند ما تسافر؟ فأجابه عروة قائلا: تأوّلت كما تأوّل عثمان! يشير عروة إلي ما فعله عثمان بن عفان رضي الله عنه، عند ما كان أمير المؤمنين، حيث ذهب إلي الحج، وفي مكة كان يتمّ الصلاة ولا يقصرها.

لقد سمّي عروة إتمام عثمان للصلاة رغم سفره تأويلا، لقوله تعالى:( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) كما اعتبر إتمام عائشة للصلاة تأويلا لهذه الآية كما تأوّلها عثمان.

إن الآية تأذن للمسلمين في قصر الصلاة الرباعية عند ما يضربون في الأرض، ويخرجون للسفر. وجملة إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ليست قيدا للقصر، بمعنى أنّ القصر ليس مقرونا بخوف فتنة الكفار، فإذا أمن المسلمون وزال الخوف والفتنة زال القصر.

إنّ هذه الجملة خرجت مخرج غالب أحوال الصحابة، حيث كانوا في حرب مع الكفار، وكانت أسفارهم فيها خوف الفتنة.

وبعد ما زال خطر الكفار، وانتهت الفتنة، وأمن المسلمون، استمرت رخصة قصر الصلاة. قال الإمام ابن كثير في تفسير الآية: «وأما قوله: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فقد يكون هذا خرج مخرج الغالب، حال نزول هذه الآية، فإن في مبدأ الاسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة، بل ما كانوا ينهضون إلا إلي غزو عام، أو في سرية خاصة، وسائر الأحياء حرب للإسلام وأهله. والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب، أو على حادثة، فلا مفهوم له» ولهذا استوضح عمر بن الخطاب رضي الله عنه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قصر الصلاة للمسافر مع الأمن. أخرج الإمام مسلم عن يعلى بن أمية قال: سألت عمر بن الخطاب:

قوله تعالى: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا). فكيف نقصر وقد أمن الناس؟ فقال لي عمر رضي الله عنه: عجبت مما عجبت منه. فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك. فقال لي: (صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته). وجواب الرسول صلّى الله عليه وسلّم على تساؤل عمر دليل على أنّ القصر ليس مقرونا بالخوف، فيجوز أن يكون مع الأمن، وهذا القصر للمسافر رخصة من الله لعباده، وصدقة تصدق بها عليهم.

ولهذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقصر الصلاة لما حجّ حجة الوداع، وقد زال خطر المشركين، ودخل الناس في الإسلام.

وأخرج البخاري وغيره عن حارثة بن وهب الخزاعيّ رضي الله عنه قال: صلّى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آمن ما كان بمني ركعتين.

وفي رواية أخرى له قال: صليت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم الظهر والعصر بمني، أكثر ما كان الناس، وآمنه، ركعتين. وأخرج البخاريّ ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «صليت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركعتين ، وأبي بكر وعمر وعثمان، صدرا من إمارته، ثم أتمها» ورغم هذه الروايات التي تدلّ على قصر الرسول صلّى الله عليه وسلّم والصحابة الصلاة مع الأمن، إلا أنّ عثمان وعائشة رضي الله عنهما أتما الصلاة، وكان إتمامهما للصلاة تأويلا كما قال عروة بن الزبير. 

قال الإمام ابن حجر في شرح الحديث وبيان تأويلهما: «وقال ابن بطال: الوجه الصحيح في ذلك أنّ عثمان وعائشة كانا يريان أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنما قصر لأنه أخذ بالأيسر من ذلك على أمته، فأخذا لأنفسهما بالشدة. وهذا رجّحه جماعة، من آخرهم القرطبي» ثم قال ابن حجر: «وأما عائشة فقد جاء عنها سبب الإتمام صريحا. وهو فيما أخرجه البيهقي من طريق هشام بن عروة عن أبيه: أنها كانت تصلي في السفر أربعا. فقلت لها- القائل ابن أختها عروة بن الزبير- لو صليت ركعتين.فقالت: يا ابن أختي: إنه لا يشقّ عليّ. وهو دالّ على أنها تأوّلت أن القصر رخصة، وأنّ الإتمام لمن لا يشق عليه أفضل!»

 إنّ إتمام عثمان وعائشة رضي الله عنهما للصلاة مع السفر، هو تأويل منهما للآية التي ترخّص بالقصر. وتأويلهما هو فهم للآية أولا، حيث فهما منها أنها تريد أن تيسر على المسلمين عند المشقة في السفر، وأنّ قصر الرسول عليه الصلاة والسلام أثناء سفره هو تيسير منه للأمة، لأنه مشرّع، وأفعاله تشريع. أما هما فإن المشقة منتفية في حقهما، والسفر لا يشقّ عليهما، ولذلك لم يقصرا الصلاة.

وتأويلهما للآية بعد ذلك أنهما أدّيا الصلاة فعلا تامة غير مقصورة، وهذا هو المظهر المادي العمليّ للتأويل، حيث حقّقا الصورة المادية لمعنى الآية، ونفّذا فعلا ما دلّت عليه الآية حسب فهمهما لها.

٣ - أخرج البخاريّ عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله: أين تنزل؟ في دارك بمكة؟ فقال: وهل ترك عقيل من رباع أو دور؟ وكان عقيل ورث أبا طالب، هو وطالب، ولم يرثه جعفر ولا علي رضي الله عنهما شيئا، لأنهما كانا مسلمين، وكان عقيل وطالب كافرين، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لا يرث المؤمن الكافر.

قال ابن شهاب: وكانوا يتأوّلون قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وهاجَرُوا وجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، والَّذِينَ آوَوْا ونَصَرُوا، أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) . يخبر أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه كان مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم لما توجّه إلي فتح مكة، فسأل أسامة الرسول عليه الصلاة والسلام: أين سينزل في مكة؟ أينزل في داره فيها؟ أم ينزل في دار أخري؟ فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن عقيل بن أبي طالب لم يترك له في مكة دارا، وذلك لأنه باع جميع دور هاشم بن عبد مناف، وابنه عبد المطلب، التي آلت إلي أبي طالب وعبد الله والد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

لقد أسلم جعفر وعلي ابنا أبي طالب رضي الله عنهما، وبذلك فقدا حقّهما في ميراث أبي طالب، وطالب شقيق عقيل فقد في معركة بدر، فلم يبق في مكة إلا عقيل بن أبي طالب، وبذلك وضع يده على دور أبي طالب وعبد الله والد الرسول عليه السلام، ثم باع تلك الدور.

ولم يرث جعفر ولا علي والدهما أبا طالب لأنهما مؤمنان، ولا يرث المؤمن الكافر، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإنّ اختلاف الدين من موانع الإرث كما هو معلوم.

قال ابن شهاب الزهري راوي الحديث عن أسامة: إن الصحابة كانوا يتأوّلون الآية التي أوردها بولاية الميراث أي: المؤمنون الصادقون من المهاجرين والأنصار، أولئك بعضهم أولياء بعض، يتولي بعضهم بعضا في الميراث وغيره.

والشاهد في هذا المثال أنّ ابن شهاب اعتبر عدم التوارث بين المؤمنين والكفار، وحصول التوارث بين المؤمنين فقط، هو تأويل من الصحابة لآية سورة الأنفال: أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ.

وتأويلهم للآية أخذ جانب التأويل العملي، أي أنهم طبقوا حقيقة الآية عمليا، ونفّذوا توجيهها لهم فعلا، وأوجدوا مضمونها فيما بينهم، وهذا هو التأويل الذي نتحدث عنه.

٤ - أخرج الامام البخاريّ عن سعيد بن المسيب عن أبي موسي الاشعري رضي الله عنه قال: «خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم إلي حائط من حوائط المدينة لحاجته، وخرجت في إثره. فلما دخل الحائط جلست على بابه، وقلت: لأكوننّ اليوم بوّاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولم يأمرني.فذهب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقضي حاجته، وجلس على قفّ البئر، فكشف عن ساقيه، ودلاهما في البئر.فجاء أبو بكر يستأذن عليه ليدخل. فقلت: كما أنت حتى أستأذن لك. فوقف، فجئت إلي النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: يا نبيّ الله: أبو بكر يستأذن عليك. قال: ائذن له، وبشّره بالجنة، فدخل، فجاء عن يمين النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكشف عن ساقيه، ودلاهما في البئر.فجاء عمر، فقلت: كما أنت حتى أستأذن لك. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم:ائذن له، وبشّره بالجنة، فجاء عن يسار النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكشف عن ساقيه، فدلاهما في البئر. فامتلأ القفّ، فلم يكن فيه مجلس.ثم جاء عثمان، فقلت: كما أنت حتى أستأذن لك. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ائذن له وبشّره بالجنة، معها بلاء يصيبه، فدخل، فلم يجد معهما مجلسا، فتحوّل، حتى جاء مقابلهم على شفة البئر، فكشف عن ساقيه، ثم دلاهما في البئر. فجعلت أتمني أخا لي، وأدعو الله أن يأتي. قال ابن المسيب: فتأوّلت ذلك قبورهم، اجتمعت هاهنا، وانفرد عثمان» 

إنّ أبا موسي الأشعري رضي الله عنه يخبر عن اجتماع الرسول صلّى الله عليه وسلّم مع أبي بكر وعمر على جانب في حافة البئر، وعن انفراد عثمان وجلوسه مقابلهم على الجانب الآخر من الحافة لعدم وجود مكان له بجانبهم.

وهذا التقدير الرباني لمواقعهم في هذه الجلسة يشير إلي ما سيكونون عليه في المستقبل، عند وفاتهم جميعا. وقد فهم سعيد بن المسيب هذه الإشارة، وعبّر عنها قائلا: فأوّلت ذلك قبورهم، اجتمعت هاهنا، وانفرد عثمان. 

لقد كان قبرا أبي بكر وعمر بجانب قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، في المسجد النبوي، بينما كان قبر عثمان بعيدا في البقيع.

وكون قبور الثلاثة رضي الله عنهم على هذه الكيفية، هو تأويل تقدير الله لمواقعهم على حافة البئر مع رسول الله عليه الصلاة والسلام. وبعبارة أخري: تقدير الله لمواقعهم الثلاثة على حافة البئر وعد بشيء سيتحقق فيما بعد، وكان تأويل هذا الوعد تحقيقه وحصوله ووقوعه فعلا. وهكذا كان، حيث دفن الصاحبان بجانب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بينما دفن عثمان في البقيع.

٥ - أخرج الامام الترمذي عن أسلم أبي عمران التّجيبي قال: كنّا بمدينة الروم، فأخرجوا إلينا صفّا عظيما من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلي أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة ابن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صفّ الروم، حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله: يلقي بيديه إلي التهلكة.

فقام أبو أيوب فقال: يا أيها الناس: إنكم تتأولون هذه الآية. هذا التأويل، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما أعزّ الله الإسلام، وكثر ناصروه، قال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ أموالنا قد ضاعت، وإنّ الله قد أعزّ الاسلام، وكثير ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا، فأصلحنا ما ضاع منها. فأنزل الله على نبيه صلّى الله عليه وسلّم يردّ علينا ما قلنا: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ولا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَي التَّهْلُكَةِ. فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها، وتركنا الغزو فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله، حتى دفن بأرض الروم إنّ الصحابيّ الجليل أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه وقف ليصحح للمسلمين المجاهدين سوء فهمهم للآية، ويصوّب لهم تأويلهم المردود لها.

الآية هي قول الله: (وأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ولا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَي التَّهْلُكَةِ، وأَحْسِنُوا، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) كان الفهم والتأويل الخاطئ للآية أنّ بعض المجاهدين اعتبر التهلكة، هي اقتحام الأهوال والأخطار، ومواجهة الأعداء، واختراق صفوفهم، وأنّ من فعل ذلك فقد ألقي بنفسه إلي التهلكة، والله قد نهانا عن إلقاء أنفسنا في التهلكة.

ولهذا لما رأوا المجاهد الشجاع يخترق صفوف الروم، ويدخل فيهم، ويقتل رجالهم أنزلوا الآية على فعله، فاعتبروا فعله مخالفا لها، فقالوا: سبحان الله، يلقي بيديه إلي التهلكة.

إنّ سبب خطأ فهمهم وتأويلهم للآية أنهم لم يعرفوا سبب نزولها، ولذلك وقف أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه يبين لهم سبب نزولها، وقال لهم: إنكم تتأوّلون هذه الآية هذا التأويل، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار. التهلكة هي في عدم الإنفاق في سبيل الله، وفي القعود عن نصرة دين الله، وترك مواجهة أعداء الله، والتخلي عن الجهاد في سبيل الله، والانصراف إلي الأعمال الشخصية على حساب قضايا الأمة.

أراد الأنصار الانصراف إلي أموالهم وأراضيهم وبساتينهم، التي أهملوها ووجّهوا طاقاتهم لنصرة الإسلام، فبعد ما نصر الله دينه، وكثر جنوده وناصروه، لماذا لا يعودون إلي أموالهم؟ فأنزل الله آية في القرآن تردّ عليهم، وتدعوهم إلي عدم التخلي عن الإنفاق والجهاد، وعدم العودة إلي الأموال، وتعتبر هذا تهلكة خطيرة.

أي أنّ التهلكة هي في القعود عن الجهاد والمواجهة، وليست في المواجهة والتحدي. لقد رفض أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه تأويلا مردودا للآية، تأويلا يقود إلي القعود وعدم اقتحام الأهوال واختراق الصفوف.

وقدم تأويلا صحيحا للآية، تأويلا يدفع أصحابه إلي الانفاق والجهاد والتحدي والشجاعة والإقدام. التأويل هنا هو فهم للآية ينتج عنه فعل وتصرف، وأبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه يريد تأويلا وفهما صائبا، ينتج عنه فعل إيجابي وتصرف سليم. أبو أيوب يريد اعتبار الآية داعية إلي الجهاد والإقدام والشجاعة، ويريد من المجاهد تأويل الآية هذا التأويل، أي: يريد منه تحقيق مفهوم هذه الآية في عالم الواقع إقداما وتضحية.إنّ التأويل في هذا الحديث لا يخرج عن التأويل في الأحاديث السابقة، الذي هو فهم للنص أو الحديث بتطبيقه وتنفيذه وأدائه في عالم الواقع.

دعاء الرسول لابن عباس بتعليم التأويل:

نقف وقفة مناسبة مع الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، الذي كان من أعلم الصحابة بالقرآن وفقه وفهمه وتأويله، والذي حاز لقب «ترجمان القرآن».

لقد دعا له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالفقه في الدين وعلم التأويل، وقد ورد هذا الدعاء في روايات عديدة، بينها تفاوت في العبارات.

١ - روي البخاري في كتاب الوضوء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الخلاء، فوضعت له وضوءا، فقال: من وضع هذا؟ فأخبر. فقال: اللهمّ فقهه في الدين .

٢ - وروي البخاري في. كتاب العلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ضمني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلي صدره وقال: (اللهم علمه الكتاب) 

٣ - وروي البخاري في كتاب العلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ضمّني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلي صدره، وقال: (اللهمّ علّمه الحكمة) 

٤ - وروي مسلم في كتاب فضائل الصحابة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الخلاء، فوضعت له وضوءا. فلما خرج قال: من وضع هذا؟ قالت- والقائلة ميمونة رضي الله عنها-: ابن عباس. قال: (اللهمّ فقهه)

٥ - وروي أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وضع يده على كتفي- أو منكبي- ثم قال: (اللهمّ فقهه في الدين، وعلمه التأويل)

٦ - وروي أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان في بيت ميمونة، فوضعت له وضوءا من الليل. فقالت ميمونة: يا رسول الله: وضع لك هذا عبد الله بن عباس.

فقال عليه الصلاة والسلام: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل). لقد تعمدت إيراد هذه الروايات الست لحديث ابن عباس، ودعاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم له لأبين خطأ شائعا عند بعض من يكتبون عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعلمه بالتأويل.

إن الكثيرين يظنون أنّ دعاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم  بقوله: «اللهم فقّهه في الدين، وعلمه التأويل» رواه البخاري ومسلم. وهذا باطل، فأطراف الحديث عند البخاري ومسلم ليس فيها: «وعلمه التأويل». وإنما هذه الجملة عند أحمد وغيره.

ولهذا قال الإمام ابن حجر: «وعلّمه التأويل هذه اللفظة اشتهرت على الألسنة، حتى نسبها بعضهم للصحيحين! ولم يصب!» قصة الحديث أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أراد أن يتعرف على هدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في صلاة الليل، فذهب إلي بيت ميمونة أم المؤمنين وزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لهذه الغاية وكان غلاما مميزا، وفي الليل، استيقظ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودخل الخلاء، فأراد أن يخدمه، فوضع له إبريق الماء على باب الخلاء، فلما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الخلاء ورأي الماء، أعجب بذلك التصرف، الدالّ على فطنة ونباهة صاحبه، فسأل ميمونة رضي الله عنها: من فعل هذا؟ فقالت الغلام عبد الله بن عباس.

فضمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابن عباس إلي صدره بحنان ومودة، ووضع يده على كتفه، ودعا الله له قائلا: اللهمّ فقهه في الدين، وعلّمه التأويل.

أي أنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم سأل الله أن يمنحه الفقه في الدين، وفهم أحكامه وأن يفقهه في القرآن، ويعلّمه تأويله، ويوفّقه لحسن فهم معانيه. ومعلوم أنّ دعاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم مجاب، ولذلك منّ الله على ابن عباس بالفقه في الدين، وعلم التأويل، فصار بحقّ ترجمان القرآن. ألفاظ روايات البخاري ومسلم هي: «اللهمّ فقّهه»، و «اللهم علّمه الكتاب»، و «اللهم فقّهه في الدين» و «اللهم علّمه الحكمة».

أما الجملة المحفوظة: «اللهم فقّهه في الدين، وعلّمه التأويل»، فهي صحيحة، وإن لم تكن في الصحيحين. قال الشيخ شعيب الأرناءوط في تخريج أحاديث مسند أحمد، عند تخريجه لهذا الحديث في مسند أحمد: «إسناده قوي، على شرط مسلم، رجاله ثقات، رجال الشيخين، غير عبد الله بن عثمان بن خثيم، فمن رجال مسلم. وأخرجه يعقوب بن سليمان في «المعرفة والتاريخ». وأخرجه الطبراني» وقال في موضع آخر، في تخريج هذا الحديث بإسناد آخر، عن طريق آخر: «إسناده قوي، على شرط مسلم، وأخرجه ابن سعد، وابن أبي شيبة، ويعقوب بن سفيان، وابن حبان، والطبراني، والحاكم ...» وقال الشيخ شعيب الأرناءوط في تخريج (اللهمّ فقهه في الدين وعلمه التأويل) في تحقيقه لكتاب «شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العز: أخرجه بهذا اللفظ: أحمد، والطبراني في الكبير والصغير، والبخاري ومسلم دون «وعلمه التأويل»، والترمذي، وابن ماجة بزيادة «وتأويل الكتاب»، والبغوي، والبزار بلفظ «اللهم علمه تأويل القرآن») والخلاصة الحديثية أنّ دعاء الرسول صلّى الله عليه وسلم لابن عباس بقوله: (اللهم فقّه في الدين، وعلّمه التأويل) ورد في حديث صحيح، إسناده قوي، على شرط مسلم.

وعند ما ننظر في هذا الدعاء، فإننا نري الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد جمع بين الفقه في الدين وتعلّم التأويل، وعطف علم تأويل القرآن على الفقه في الدين. إنّ قوله: و«علمه التأويل» أو «علّمه تأويل القرآن» يدلّ على أنّ التأويل علم مستقل قائم بذاته، وأنّ التأويل يحصّله الانسان بالتعلم والتحصيل والاكتساب، إضافة إلي ما وهبه الله من ملكة وموهبة وفطنة. والتأويل المذكور هنا هو المعنى الثاني الذي تحدثنا عنه أثناء وقفتنا مع آية المحكم والمتشابه في سورة آل عمران، وهو الفهم والفقه والتفسير والبيان.

لقد علم الله ابن عباس رضي الله عنهما تأويل القرآن، ففهم معاني القرآن، وأوّل آياته. وندعو إلي ملاحظة تحقق معنى التأويل في فقه اللغة - الذي سبق أن قرّرناه - على علم ابن عباس بتأويل القرآن.

فإذا كان أساس اشتقاق ومعنى التأويل هو الردّ والحمل والإرجاع والإحالة، وبيان المرجع والمآل والعاقبة والنهاية، فإنّ تأويل ابن عباس للقرآن بالمعنى العلمي، الذي أتقنه وفقهه، يبدو فيه المعنى الأصلي ظاهرا.

فعند ما كان ابن عباس يؤوّل آية من القرآن، فإنما كان يحملها على المعلومات التفسيرية الصحيحة من أحاديث وأسباب نزول ولغة العرب، ويعيدها إليها، وينظر في الآية التي يؤوّلها على ضوء هذه المعلومات التي بين يديه، فيكون تأويله لهذه الآية صائبا، وفهمه لها صحيحا، واستنباطه منها دقيقا، وهو بهذا التأويل يقدم حقيقة معنى الآية، ويقرر مآلها وعاقبتها العلمية التي تريد تقريرها.

وبهذا نري الجمع بين المعنى العلمي للتأويل والمعنى العملي الواقعي له، ونري تحقق معناه الأصلي اللغوي في هذين النوعين من استعماله: الاستعمال العلمي الذي استعمله فيه ابن عباس، والاستعمال العملي الذي ورد في نصوص أخري، سبق أن أوردناها.

وعلى ضوء هذا نفهم كلام ابن عباس رضي الله عنهما، الذي أورده له الامام الطبري في مقدمة تفسيره: قال ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله .