نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء العشرون (في حرمة أكل أموال المؤمنين بالباطل وحرمة قتل النفس بغير حق)

نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء العشرون (في حرمة أكل أموال المؤمنين بالباطل وحرمة قتل النفس بغير حق)
544 0

الوصف

نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء العشرون (في حرمة أكل أموال المؤمنين بالباطل وحرمة قتل النفس بغير حق)

النداء العشرون:

حرمة أكل أموال المؤمنين بالباطل

قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوالاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا" (النساء:29).

موضوع الآية: في حرمة أكل أموال المؤمنين بالباطل وحرمة قتل النفس بغير حق.

المفردات:

"آمَنُوا" : صدقوا الله ورسوله.

"لاَ تَأْكُلُوا" : أي لا تأخذوا وعبر عن الأخذ بالأكل؛ لأنه المقصود المهم.

"بِالْبَاطِلِ" : بالحرام في الشرع: كالربا والقمار والغصب ونحوه.

"إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ" : أي لكن أن تكونوا الأموال أموال تجارة وصادرة عن طيب نفس فلكم أن تأكلوها.

"وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ" : أي لا يقتل بعضكم بعضا، أو لا تقتلوا أنفسكم بارتكاب ما يؤدي إلى هلاكها.

"إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا" : في منعه لكم من ذلك.

مناسبة الآية لما قبلها:

ذكر سبحانه هنا قاعدة التعامل العام في الأموال بعد أن بين أحكام بعض المعاملات فيما مضى، وذلك لأن المال قرين الروح والاعتداء عليه يورث العداورة، بل قد يجر إلى الجرائم كالقتل ونحوه.

لذا أوجب الله تعالى تداوله بطريق التراضي لا بطريق الظلم والاعتداء.

المعنى الإجمالي:

تذكر أيها القارئ أن المراد بالمؤمنين الذين ناداهم الله عز وجل هم الذين آمنوا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، وأنهم بإيمانهم أهل لأن يكلفوا وينهضوا بالتكاليف، فيفعلون منها ما يُفعل، ويتركون منها ما يترك، وذلك لكمال حياتهم، 

فها هو ذا تعالى قد ناداهم بقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" لينهاهم عن أكل أموالهم بينهم بالباطل، أي بدون حق كالإرث، أو التجارة، أو العمل، أو الصدقة على مستحقيها، لفقره أو مسكنته، أو لوجوبها كالنفقة على الزوجة، والولد، والوالدين، وهو معنى قوله تعالى: "لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ" أي بدون حق يقتضي الأكل، وعبر بالأكل؛ لأن الغالب في الأموال يؤكل بها، وإلا فكل مال أخذ بغير حق حرام سواء أكل به وشرب، أو بنى به وسكن، أو ركب به ولبس أوفرش،

 واستثنى تعالى مال التجارة فقال: "إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ" فإن التاجر قد يشتري الشاة من صاحبه بعشرة برضاه، ويبيعها بعشرين، أو يشتري الدار بمائة ألف، وقد يبيعها بمائة وخمسين منه فلا يقولن قائل: قد أكل فلان مال أخيه؛ لأنه باعه الشاة بعشرة، فكيف يبيعها بعشرين وقد أخذ عشرة بغير حق، 

والجواب: أن الله قد أباح ربح التجارة بقوله: "إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ" نعم لو اشترى منه ما اشترى بدون رضاه، فلا يحل له ذلك الربح ولو قل. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" بأن يرد أحدهما البضاعة لمن ابتاعها منه، أو يتفرقا من المجلس فيذهب كل إلى سبيله، فحينئذ قد تم البيع وأصبح للمشتري أن يبيع بما شاء، وما ضر البائع إن اشتراها بعشرة، وباعها بعشرين، لهذه الآية الكريمة: "لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ"

ولنعلم أن إباحة ربح التجارة مشروط بشرط التراضي بين البائع والمشتري، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما البيع عن تراض" فإن لم يحصل تراض بينهما، فالبيع باطل، ومن أخذ تجارة بغير رضا صاحبه فربحه باطل وحرام، وعليه أن يرده إلى صاحب البضاعة التي أخذها بدون رضا بائعها.

فلنذكر هذا أيها المؤمنون. ولنعلم أن أكل أموال المؤمنين بالباطل له صور منها:

1- السرقة: إذ حرم الله السرقة وحكم بقطع يد السارق.

2- الربا: فمن أعطى أخاه قرضا فلا يحل له أن يأخذ منه زائدا عن قرضه ولو كان درهما واحدا.

3- الغش: كأن يبيعه سلعة فاسدة وهو لا يدري فسادها؛ لأنه مستور أو خفي، وقد حدث مرة أن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم سوق المدينة فوجد صبرة "كيسًا" فيها طعام فأدخل يده في وسطها فوجد فيها بللا، فعاب على البائع، وقال له: "لم لا تجعل المبتل منها ظاهرًا حتى يعلمه المشتري، يا فلان إن من غشنا فليس منا، المكر والخداع في النار".

4- القمار: فكل مال القمار حرام لأنه بغير حق.

5- أكل العربون: وهو أن يعطي المشتري لصاحب السلعة بعضا ويقول له: إن أتممت الثمن أخذت البضاعة وإن لم آتك فالبضاعة لك وما دفعته أيضا هو لك، فأكل هذا العربون حرام؛ لأنه بغير حق.

وفي الآية إشارة إلى أن معظم التجارات مشتملة على الأكل بالباطل، للطمع في أخذ الأرباح الفاحشة، ولزخرفة البضائع بمختلف الأساليب، ولاقترانها بالإيمان الكاذبة غالبا، لذا فإنها تحتاج إلى المساحة والصدقة، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن قيس بن أبي غرزة:

"يا معشر التجار إن بيعكم هذا يحضره اللغو والكذب، فشوبوه بالصدقة".

وفي الآية أيضا إشارة إلى التاجر الصدوق، فقد روى الدارقطني عن ابن عمر من قوله صلى الله عليه وسلم : "التاجر الصدوق الأمين المسلم مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة"، وقوله: "وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ" نص قطعي في تحريم قتل المرمن أخاه، وهذا شامل لقتل المسلم نفسه وقتله أخاه المسلم؛ لأن المسلمين كجسم واحد، فالذي يقتل مسلما منهم فكأنما قتل نفسه، روى أحمد ومسلم عن النعمان عن بشير رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم : "المؤمن كرجل واحد، إن اشتكى كله، وإن اشتكى عينه اشتكى كله".

"إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا" ومن رحمته أن صان نفوسكم وأموالكم، ونهاكم عن إضاعتها وإتلافها، ورتب على ذلك ما رتبه من الحدود، وقد بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين حكم تحريم أموال المؤمنين وقتلهم وأعظهم مشهد، إنه يوم عرفة، إذ جاء في خطبته الطويلة الشاملة قوله صلى الله عليه وسلم : "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام: "كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا" ثم قال "اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد".

وأخيرا فإن جريمة الانتحار الشائعة في بلاد الكفار قد ظهرت أيضا في بلاد المسلمين، وذلك لضعف الإيمان والتشبه بالكفرة والملحدين، فلنذكر الوعيد الشديد لأصحابها على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الصحيح إذ قال: "من قتل نفس بشيء عذب به يوم القيامة"، وقال صلى الله عليه وسلم: "من قتل بحديدة فحديدته في يده يجأبها بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدا، وقال صلى الله عليه وسلم: "من قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالد مخلدا أبدا"، وقال صلى الله عليه وسلم: "من تردى من جبل فقتل نفسه فهو مترد في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا".

وفي الآية نهى عن كل ما يؤدي إلى الموت: كتناول المخدرات والسموم الضارة والمجازفة في المهالك، والحبوب السامة وذلك بأكل كمية كبيرة تقتل.

مايستفاد من الآية:

1- حرمة مال المسلم وكل مال حرام بسرقة أو غصب أو غش أو قمار أو ربا ونحوه.

2- إباحة التجارة والترغيب فيها حسب الشروط الشرعية.

3- تقرير مبدأ إنما البيع عن تراض، والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا.

4- حرمة قتل المسلم نفسه أو غيره من المسلمين لأنهم أمة واحدة.