نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء الخامس والعشرون (في وجوب العدل في الشهادة وحرمة اتباع الهوى المانع من العدل فيها)

الوصف
نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء الخامس والعشرون (في وجوب العدل في الشهادة وحرمة اتباع الهوى المانع من العدل فيها)
النداء الخامس والعشرون:
وجوب العدل في القضاء والشهادة وحرمة اتباع الهوى المانع من العدل
قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا" (النساء:135).
موضوع الآية:وجوب العدل في القضاء والشهادة بحق وحرمة اتباع الهوى المانع من العدل فيها.
معاني الكلمات:
"قَوَّامِينَ" : أي قائمين بالعدل على أتم وجه.
"بِالْقِسْطِ" : بالعدل وهو الاستقامة والتسوية بين الخصوم.
"شُهَدَاءَ" : جمع شهيد، أي شاهدين بالحق لوجه الله وحده.
"الْهَوَى" : ميل النفس إلى الشيء ورغبتها فيه.
"تَلْوُوا" : أي ألسنتكم باللفظ تحريفا له حتى لا تتم الشهادة على وجهها.
"تُعْرِضُوا" : تتركوا الشهادة أو بعض كلماتهم ليبطل الحكم.
"فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا" : فيجازيكم به.
سبب نزول الآية:
أخرج ابن أبي حاتم عن السدى قال: لما نزلت هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلم اختصم إليه رجلان: غني، وفقير، وكان صلى الله عليه وسلم مع الفقير يرى أن الفقير، لا يظلم الغني، فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير.
مناسبة الآية لما قبلها:
لما أمر تعالى بالإحسان إلى النساء والعدل في معاملتهن أمر هنا بالعدل العام في جميع الأحكام؛ لأن قوام المجتمع لا يكون إلا بالعدل وحفظ النظام، ودوام الملك لا يتم إلا به، فالعدل أساس الملك الدائم، ودعا إلى أداء الشهادة على الوجه الأكمل، وحذر من اتباع الهوى.
المعنى الإجمالي:
هذا النداء الإلهي له شأن عظيم، إذ هو يوجب العدل في القضاء، والشهادة، والقول، والعمل، والاعتقاد، فعلى من قضى بين اثنين أن يعدل في حكمه، وأن من شهد أن يعدل في شهادته، وأن من قال مخبرا أو آمرا، أن يعدل في قوله أو أمره، إذ على العدل قامت السماوات والأرض، ويأمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط شهداء لله، والقوام صيغة مبالغة، أي كونوا في كل أحوالكم قائمين بالقسط في حقوق الله، ولا يستعان بنعم الله على معصيته، بل تُصْرَفُ في طاعته.
والقسط في حقوق الآدميين أن تؤدي جميع الحقوق التي عليك، كما تطلب حقوقك، فتؤدي النفقات الواجبة والديون، وتعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به.
وها هو ذا الرب تبارك وتعالى ينادي المؤمنين ويأمرهم قائلا: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ" أي بالعدل هذا في الحكم بين الناس. "شُهَدَاءَ للهِ" أي أدوا الشهادة لله؛ لأن الشهادة على عبده كالشهادة له عز وجل. إذا أدوها عادلة لا حيف فيها ولا جور، ولو كانت الشهادة على أنفسكم لأنكم عبيد الله فلا تظلموا أنفسكم؛ لأن ذلك لا يرضاه سيدكم لكم، وظلم النفس يكون باقتراف الذنب بالحيف في الشهادة وعدم العدل فيها، إذا فاعدلوا ولو كانت الشهادة على أنفسكم، أو الوالدين والأقربين، فليشهد أحدكم على نفسه بأنه فعل أو ترك، وعلى أبيه وأمه وأقربائه، أنهم فعلوا أو قالوا أو أخذوا أو تركوا، فلا تحمله طاعة والديه، وواجب الإحسان إلى أقربائه، أن يكتم الشهادة عليهم، أو يبدلها حائفا فيها جائرا، ولا تراعوا في أداء الشهادة فقرا ولا غنى كما لم تراعوا قربا أو بعدا، فالله أولى بالفقير بالإحسان إليه، وأولى بالغني أن يأخذ منه غناه. فلا يميلن أحدكم مع الفقير رحمة به، ولا مع الغني طمعا فيه، وليوكل ذلك لله تعالى، فهو أولى به.
بعد هذا الإرشاد والتوجيه إلى إقامة العدل في القضاء والشهادة. نهى تعالى المؤمنين عن اتباع الهوى فقال: "فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى" والهوى هو ميل النفس إلى ما تحبه وما يزينه الشيطان لها، فترغب فيه وتطلبه كحب السمعة والمال والجاه واللذات، فنهى تعالى عباده المؤمنين عن اتباع الهوى حتى لا يجوروا في قضائهم وشهاداتهم، ثم حذرهم في لي اللسان بالشهادة حتى لا تأتي عادلة، ومن الإعراض عنها بأن يكتموها فلا يؤدوها، أو يعرضوا عن بعضها فلا تكون كافية في إحقاق الحق وإبطال الباطل. فقال تعالى: "وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا" أي لا يخفى عليه أمركم، عدلتم أو جرتم، أتممتم أو نقصتم، فاحذروا رقابته تعالى لكم وجزاءه إن عدلتم بالخير، أو جرتم بالعذاب، فما أحسن هذا التذييل في الآية الكريمة: "فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا" فاذكروا هذا ولا تنسوه، فإنه يعينكم على تقوى الله عز وجل بامتثال أمره واجتناب نهيه فتكملوا وتسعدوا.
واعلم أيها القارئ الكريم أن الله تعالى أمر بالعدل في القضاء والحكم في غير هذه الآية، أيضا، فاسمع قوله تعالى: "إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ" وقوله: "وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ" كما نهى تعالى عن كتمان الشهادة في قوله: "وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ" ومما يؤكد أمر حرمة الظلم والجور في الحكم والشهادة قول الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب أصحابه: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "الشرك بالله، وعقوق الوالدين"، وكان متكئا فجلس فقال: "ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور" وما زال يكررها حتى قال الحاضرون من أصحابه: ليته سكت. أي تمنوا سكوته خشية أن ينزل أمر عظيم لا يطاق، ويقول صلى الله عليه وسلم مخبرًا أمته معلمها لتكمل وتسعد: "خير الشهود الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها" وبناء على هذا فشر الشهود من يكتم شهادته فيضيع حق أخيه المؤمن، والعياذ بالله تعالى.
بالعدل قامت السماوات والأرض وبه تقوم الدول
وأخيرا إليك أيها القارئ الكريم هذه الصورة الجليلة في بيان العدل والشهادة بالقسط، يقول عبد الله بن رواحة شهيد مؤتة – رضي الله عنه وأرضاه وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم. فقال لهم: والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلي، ولأنتم أبغض إلي من أعدائكم من القردة والخنازير، وما يحملني حُبِّي إياه وبُغْضِي لَكُم على أن لا أعدل فيكم فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض. لنتأمل جميعا هذا الموقف الذي وقفه عبد الله بن رواحة صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم وهو موقف يجب أن يقفه كل مؤمن، فلا تغرنه الحياة الدنيا فيحيف أو يجور أو يأخذ رشوة مالية مهما كانت الظروف والأحوال.
ولأن العدل قيمة أساسية قال بعض العلماء: إن الله ينصر الأمة الكافرة العادلة على الأمة المسلمة الظالمة. وقال بعضهم أيضًا: الدنيا تصلح بالكفر والعدل، ولا تصلح بالإيمان والظلم. إنّ عدل ساعة يعدل أن تعبد الله ثمانين عامًا.
انظر أيها المؤمن إلى رسول الله؛ إذ قال له رجل: يا رسول الله! اشهد أني نَحَلْت –أي أهديت- ابني هذا حديقة. قال: ألك ولد آخر؟ قال: نعم، قال: هل نحلته مثل ما نحلت هذا؟ قال: لا، قال: أشهد غيري، فإني لا أشهد على جور". وكثير من الناس يحرمون الإناث من الميراث، وهم أناس يُحْسَبُون من الصالحين الذين يَرْتَادون المساجد. إنّ الرجل وإنَّ المرأة ليعبدان الله ستين عامًا ثم يضارّان في الوصية فتجب لهما النار.
فلا تُقبّل ابنًا دون أن تُقبّل الآخر، وبالغ في العدل، وفي توزيع ما تملك بين أبنائك.
وورد في الأثر أن أنصاريا سرق درعًا، واتهم يهوديًّا بها. وكان مِنْ ظَلمه أنه أعدَّ خطة محكمة لتجوز التهمة على اليهودي؛ إذ طلب من اليهودي أن يبقيها عنده، فحملها في كيس طحين، وجعل الكيس مثقوبًا، فرسم الطحين المتساقط طريقًا إلى اليهودي، فنزل في حقّه قرآن يخاطب سيد المرسلين: "وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)" (النساء: 105).
ومن عدل بين الناس على اختلاف أديانهم قرَّبهم إلى الله تعالى، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا" (المائدة: 8)؛ أي لا يحملنكم بغض قوم على أن لا تعدلوا. المؤمن بفطرته يبغض الكافر، والمنافق، والمنحرف، والعاصي، والفاجر. لكنه حين يعدلُ يقرّب هؤلاء جميعًا إلى الله، وبعدله يقربهم من نفسه.
إن العدل قيمة عليا أساسية قادت المؤمنين إلى الانتصار على أعدائهم الأقوياء، ولن ينتصر المسلمون على أعدائهم الأقوياء إلا إذا عدلوا فيما بينهم، قال صلى الله عليه وسلم:
(هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ)
(رواه البخاري عن سهل بن سعد). فالضعيف ينبغي أن نطعمه إن كان جائعًا، وأن نكسوه إن كان عاريًا، وأن نعلّمه إن كان جاهلًا، وأن نؤويه إن كان مشردًا، وأن ننصفه إن كان مظومًا، فإن فعلنا هذا، فلعل الله يتفضل علينا بأن ينصرنا على من هو أقوى منا.
وإذا أردت أن تدعو الله، فإن الله قريب يجيب دعوة من يدعوه، قال تعالى: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)" (البقرة: 186)، ولقد أجمع العلماء على أن المظلوم مستثنى من شروط الدعاء، والله يستجيب له ولو كان كافرًا، قال صلى الله عليه وسلم:
(اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)
(أخرجه البخاري عن ابن عباس). وفي رواية:
(اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافرًا)
(رواه أحمد في مسنده وأبو يعلى في مسنده والضياء عن أنس).
قال تعالى: "شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ" (آل عمران: 18)، فعدل الله مطلق، وأغبى الأغبياء من لا يُدخِل عدل الله في حسابه، فيظلم زوجته، وأولاده، وعمّاله.
ولو دققنا النظر في أسباب تخلي الله عن المسلمين، فإننا نجد أسبابًا كثيرة جدًّا، ومنها: تخلّيهم عن قول الحق، والأمر بالعدل، والقسط، ووقوفهم مع القوي ومع الغني، فلو نطق الغني والقوي بالكفر لصدقوا كلامه، ولو ظلم من حوله لبجّلوه وعظّموه، لكنّ المؤمن لا يبجِّل ولا يعظِّم إلا الله العادل، والحكم بالقسط أمر إلهي يقتضي الوجوب، فيخاطب الله النبي صلى الله عليه وسلم فيقول له: "وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)" (المائدة: 42).
قال له أحد الأعراب، اعدل يا محمد، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: ويحك يا هذا من يعدل إن لم أعدل.
وأسماء الله الحسنى كلها محقَّقة في الدنيا إلا اسم (العدل) المطلق التام فإنه محقَّق يوم القيامة، وهذا الاسم محقَّق جزئيًّا فقط؛ لأن الله سبحانه وتعالى يكافئ في الدنيا – وهي دار امتحان – بعض المحسنين، تشجيعًا للباقين، ويعاقب بعض المسيئين ردعًا للباقين، أما العدل المطلق التام فيكون في الدار الآخرة، قال تعالى: "وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (آل عمران: 185)، وقال تعالى: "إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)" (يونس: 4).
ففي الآخرة تتمّ تسوية الحسابات.
أيها المؤمن: أدِّ الذي عليك واطلب الذي لك، وكن مقسطًا وعادلًا، فكل إنسان منا قد يكون قاضيًا، لكن هو أساسًا ليس قاضيًا، إنه أب لكنه قاضٍ بين أولاده، قاضٍ بين زوجات أبنائه، قاضٍ بين أهل زوجته. هذا قضاء، فكن مقسطًا وكن عادلًا ترى الطريق إلى الله مستنيرا.
ما يستفاد من الآية:
1- وجوب العدل في القضاء والشهادة، ولقد كان السلف رحمهم الله تعالى مضرب المثل في العدل في العدل حتى مع أعدائهم، ومن ذلك أن عبد الله بن رواحه رضي الله عنه لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم، فقال والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلى، ولأنتم أبغض الخلق إلي من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبي إياه، وبغضي لكم أن لا أعدل فيكم. فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.
2- حرمة شهادة الزور، وحرمة التخلي عن الشهادة لمن تعينت عليه.
3- أداء الشهادة بالحق ولو على النفس أو الوالدين أو الأقربين؛ لأن الحق يعلو ولا يعلى عليه، ولأنه أحق أن يتبع.