نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء الثامن والعشرون (في وجوب الوفاء بالعهود)

الوصف
نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء الثامن والعشرون (في وجوب الوفاء بالعهود)
النداء الثامن والعشرون:
وجوب الوفاء بالعهود
قال تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ" (المائدة:1).
الموضوع:
في وجوب الوفاء بالعهود والمنة على عباه بِحِلِّ بهيمة الأنعام، إلا ما استنثى منها في قوله تعالى: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ" (المائدة:3)... الآية.
معاني الكلمات:
"أَوْفُوا" : أتموا الشيء كاملا لا نقص فيه، والوفاء بها عدم نكثها والإخلال بمقتضاها.
"بِالْعُقُودِ" : العهود الموثقة بينكم وبين الله وبينكم وبين الناس، وتشمل عقود الشرع فيما أحل وحرم وفرض وعقود الناس بعضهم مع بعض في البيع والشراء والمناكحة وغير ذلك.
"بَهِيمَةُ الأنْعَامِ" : الإبل والبقر والغنم.
"بَهِيمَةُ" : هي ما لا عقل لها، وخصها العرف بذوات الأربع من حيوان البر والبحر.
"وَأَنْتُمْ حُرُمٌ" :محرمون بحج أو عمرة.
المعنى الإجمالي:
هذا أمر من الله لعباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان، والوفاء بالعقود أي بإكمالها وإتمامها وعد نقضها ونقصها، قال الراغب: العقود ثلاثة أضرب:
1- عقد بين الله وبين العبد.
2- وعقد بين العبد وبين نفسه.
3- وعقد بينه وبين غيره من البشر.
وهنا ينادي الرب تبارك وتعالى عباده المؤمنين به وبلقائه، وبرسوله، وبوعده لأوليائه، وهم أهل طاعته، وبوعيده لأعدائه، وهم أهل الكفر به والفسق عن أمره، يناديهم بعنوان الإيمان؛ لأنه يريد أن يكلفهم بما لا يقدر عليه إلا المؤمنون، لكمال حياتهم بإيمانهم وولاية ربهم. فما الذي كلفهم به يا ترى؟
والجواب أيها القارئ الكريم: إنه كلفهم بأمر عظيم ألا وهو الوفاء بالعقود والعهود وأولها الوفاء بالعهود التي بينهم وبينه سبحانه وتعالى، إذ قال تعالى من سورة النحل: "وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ ..".
وقال من هذه السورة "المائدة": "وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ" فنعمة الله تعالى هي الإيمان به، والإسلام، والإحسان، وميثاقه تعالى الذي أخذه عليهم: هو أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا.
فكل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فقد قطع لله تعالى على نفسه عهدا وميثاقا، بأن يعبد الله تعالى وحده، وبما جاء به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الشرائع والأحكام، وهكذا كل من نذر لله نذرا فقد قطع على نفسه عهدا فليوف به إن كان صياما صام، وإن كان قياما قام، وإن كان رباطا رابط، وإن كان صدقة تصدق، وإن عجز كفر كفارة يمين، واستغفر الله وتاب إليه، ومثل عهود الله تعالى في وجوب الوفاء بها عهود الناس فيما بينهم، إذ الكل أمر تعالى بالوفاء به لا سيما العهود الموثقة بالإيمان، وما كان متعلقا بحقوق الناس، كحقوق النكاح، والبيع، والشراء، والإيجار، وكالأمانات مطلقا، فمن اؤتمن أمانة وجب عليه أداؤها وحرم عليه إضاعتها أو خيانتها، لأمر الله تعالى بذلك كما في قوله تعالى: "إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا" وفي قوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ"
ولنذكر أيها القارئ في هذا الأمر الإلهي بالوفاء بالعقود ما قاله الحسن البصري- أحد سادات التابعين- فقد قال: "يعني عقود الدين" وهي ما عقده المرء على نفسه من بيع وشراء وإجارة وكراء، ومناكحة وطلاق، ومزارعة، ومصالحة، وتمليك، وتخيير، وعتق، وتدبير، فقد شمل هذا القول سائر أنواع العقود والعهود، ألا فلنذكر هذا ولا ننسه.
وأما قوله تعالى في هذا النداء: "أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ" فإنه تذكير بالنعمة لتشكر ولا تكفر والمراد من بهيمة الأنعام: هي الأزواج الثمانية : الإبل ، والبقر، والغنم، وهي: ضأن وماعز، والكل ذكر وأنثى.
وقوله تعالى: "إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ" أي تحريمه منها وهو: الميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، إذ جاء هذا في هذه السورة وبعد آيات محدودة. إذ قال تعالى: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ" أي أدركتم فيه الروح فذبحتموه، "وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ" وهو ما ذبح لغير الله تعالى، كالذبح للأصنام والأضرحة والقبور أو الجان وما إلى ذلك.
وقوله تعالى في هذا النداء: "غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ" هو إضافة إلى تحريم ما حرم على عباده المؤمنين من اللحوم الفاسدة المخبثة للنفس الملوثة لها، إذ حرم على المحرم بحج أو عمرة أن يصيد، لما في الصيد من اللهو والغفلة عن ذكر الله، وعليه فلا يحل للمحرم أن يصيد ولا أن يأكل ما صاده وهو محرم أو صاده له غيره بأمره له أو برضاه عنه، فما صاده المحرم وما صيد له هو محرم –كسائر المحرمات – الأكل مما أنزل الله تعالى في كتابه، أو على لسان رسوله، إذ نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور. وقوله تعالى في هذا النداء العظيم: "إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ" أي يبيح ويمنع، ويحل ويحرم، يبيح ما يريد إباحته، ويمنع ما يريد منعه، ويحل ما يريد حله، ويحرم ما يريد تحريمه. وكل ذلك تابع لعلمه وحكمته ورحمته وقدرته. فلذا الحلال ما أحل الله ورسوله، والحرام ما حرم الله ورسوله، ولا يحل لمؤمن أن يحرم ما أحل الله ورسوله، ولا أن يحل ما حرم الله ورسوله.
فلنذكر هذا أيها القارئ حتى نقدر على طاعة الله ورسوله بالوفاء بالعقود، ومنها: أن نشكر الله تعالى على نعمه، ولا نحرم ما أحل لعباده، ولا نحل ما حرم عليهم، ولنفوض ذلك لله الذي يحكم ما يريد، لعلمه الذي أحاط بكل شيء، وحكمته التي لا يخلو منها شيء، ورحمته التي وسعت كل شيء، وقدرته التي لا يعجزها شيء. ولنقل آمنا بالله. والحمد لله.
من وحي الآية: المسلمون عند شروطهم
يأمر منهج الله عز وجل كل إنسان بأن يفي بعقده مع الآخرين. ويلزم بمطلق العقود، فأي عقد بينك وبين آخر قد يكون مسلمًا وقد يكون غير مسلم، ينبغي أن تفي به ما دام وفق منهج الله، ووفق الشريعة الإسلامية.
وقد استنبط العلماء قاعدة شرعية هي: المسلمون عند شروطهم. فإذا كان هناك عقد بينك وبين إنسان وأنت مسلم ملتزم، فيجب أن تطبق منهج الله، الذي يأمرك بأن تفي بهذا العقد.
وستكون الجنة ثمن التضحية بالنفس والمال، لذلك الله عز وجل يطمئننا في قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ" (التوبة: 111). فكأن الله عز وجل هو الذي اشترى منك نفسك، ووقتك، وجهدك، ومالك، وصحتك، ووقتك، والشاري في هذا العقد هو الله، والبائع هو المؤمن، والثمن هو الجنة.
وشدد الله على تحقيق الوعد، مبينًا أن زوال الكون أهون عليه سبحانه من عدم تحقيق وعوده للمؤمنين، قال تعالى: "وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ" (التوبة: 111).
وإن زوال الكون أهون على الله أن يعدك وعدًا ثم لا ينفذ هذا الوعد، قال تعالى:
"وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي" (النور: 55)، فعليك أن تعبده وقد وعدك أن يستخلفك في الأرض، وأن يمكّن لك دينك، وأن يطمئنك، فإذا كنا لسنا مستخلفين، وممكِّنين، ولسنا آمنين، فمعنى ذلك أننا لم ننفذ الذي علينا.
وقد وعد الله عز وجل المؤمنين بأشياء كثيرة، قال تعالى: "وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)" (الصافات: 173)، وقال: "وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)" (الروم: 47)، وقال: "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" (غافر: 51)، وقال: "وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)" (النساء: 141).
وهذا وعد من خالق السماوات والأرض: "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً" (النحل: 97)، ووعد الله من يتقيه بأن يجعل له مخرجًا، قال تعالى: "وَمَن يَّتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2)" (الطلاق: 2)، ومن أدى الذي عليه فوعود الله عز وجل محققة له، ووعود الله للمؤمنين تتحقق فور أن تؤدي الذي عليك. لا يجتمع إيمان وقلق، ولا إيمان وحزن، ولا إيمان وإحباط، ولا إيمان وخوف، ولا إيمان ويأس، كل هذه المشاعر هي مشاعر البعد عن الله، قال تعالى: "أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ" (الجاثية: 21)، وقال: "أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُونَ" (السجدة: 18)، وقال: "أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)" (القلم: 35 – 36).
أيها المسلم: عليك أن تعتقد اعتقادًا جازمًا بأن كل وعود الله عز وجل تتحقق في أي زمن، فإله الصحابة إلهنا، وقرآنهم قرآننا، ونبيهم نبينا، وفي حال أن نقدم لله ثمنًا، فإنه وعده الحق يتحقق، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ" (محمد: 7). وعلينا أن ندعو الله أن يعيننا على أنفسنا حتى ننتصر له، ونستحق أن ينصرنا على أعدائنا، فالله عز وجل وليّ الذين يوفون بالعقود.
إنّ الوفاء بالعهد وإنجاز الوعد من صفات المؤمن، والإنسان يسقط من عين الله إذا تعهد ولم ينفذ، ووعد ولم يفِ، ومن المستحيل أن تنفذ وعدًا ثم لا تكافأ من الله عليه، لذلك الله عز وجل قال: "لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ" (البقرة: 177)، وقال: "وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا" (البقرة: 177).
وعلى كل إنسان أن يشتق من الله كمالًا يتقرب به إليه، فالله رحيم، فارحم عباده يرحمك الله. الله يفي بعهده، فأوفِ بعهدك يقربك الله عز وجل، قال تعالى: "وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)" (البقرة: 177).
ومن عاهد بشيء فعليه أن ينفذه وإلا عُدّ كاذبًا. قال صلى الله عليه وسلم:
"عبدي خلقت لك السماوات والأرض ولم أَعْيَ بخلقهن، أفيعييني رغيف أسوقه لك كل حين، لي عليك فريضة، ولك علي رزق، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك، وعزتي وجلالي إن لم ترضَ بما قسمته لك فلأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البرية، ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك ولا أبالي، وكنت عندي مذمومًا، أنت تريد وأنا أريد، فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد"
(
ورد في الأثر): كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أحد أصحابه، فقالت أم الطفل لطفلها: تعال لأعطيك، فقال صلى الله عليه وسلم: ماذا أردت أن تعطيه؟ قالت: تمرة، فقال لها صلى الله عليه وسلم: أو إن لم تفعلي ذلك لعدت عليك كذبة.
وعلى كل إنسان أن يفي بعهده مع الله عز وجل، قال تعالى: "وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)" (البقرة: 40) والله عز وجل يوجهنا في البيع والشراء، قال تعالى: "وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)" (هود: 85).
والوفاء بابه واسع جدًّا. أيها المؤمن: إن بينك وبين الله عقدًا، هو عقد الإيمان. إنك عقدت هذا العقد مع الله في عالم الأزل حينما قال الله عز وجل: "أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى" (الأعراف: 172).
ويبدأ هذا العقد مع الله في عالم الأزل، فإذا جئت إلى الدنيا فينبغي أن تفي بهذا العقد.
وقد وصف الله المؤمنين وغير المؤمنين في كتابه فقال في وصف المؤمنين: "الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلاَ يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23) سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)" (الرعد: 20 – 24) فالمؤمنون يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق حتى مع غير المؤمنين. ووصف غير المؤمنين فقال تعالى:
"وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)" (الرعد: 25).
والوفاء بالعهد من صفات الإنسان القوي، الذي إذا عاهد يفي بالعهد.
ومن كان وفيًا لعهده ارتقى عند الله وعند الناس قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)" (الفتح: 10).
وقال تعالى: "وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)" (النجم: 37) إن قوتك بأنك إذا عاهدت الله أن تفي بهذا العهد. وقبل أن تبرم العقد فكّر، أما إذا أبرمت فقد انتهى التفكير، وانتهى خيارك، ولا بد من الوفاء، والإنسان حينما يكون وفيًا لعهده يرقى عند الله وعند الناس.
ما يستفاد من الآية:
1- وجوب الوفاء بالعهود التي بين الله تعالى وبين العبد والمحافظة على العقود التي بين العبد وأخيه العبد لشمول الآية ذلك.
2- إباحة أكل لحوم الأبل والبقر والغنم إلا الميتة منها.
3- تحريم الصيد في حال الإحرام وحليته بعد التحلل من الإحرام وهو صيد البر لا البحر.
4- تحريم الصيد في الحرم سواء كان محرمًا أو غير محرم.
فائدة مهمة:
في المناسبة بين سورة النساء والمائدة:
1- إن سورة النساء اشتملت على عدة عقود صريحا وضمنًا فالصريح عقود الأنكحة والصداق والحلف والمعاهدة والأمان، واما الضمني، عقود الوصيةوالوديعة والوكالة والإجارة.
2- إن سورة النساء مهدت لتحريم الخمر، وسورة المائدة حرمتها ألبتة فكانت متممة لشيء مما قبلها.
3- إن معظم سورة المائدة في محاجة اليهود والنصارى، مع ذكر شيء عن المنافقين والمشركين، وقد تكرر ذلك في سورة النساء، وأطيل به في آخرها.