نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء الحادي والثلاثون (في وجوب العدل في الحكم والشهادة)

نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء الحادي والثلاثون (في وجوب العدل في الحكم والشهادة)
488 0

الوصف

نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء الحادي والثلاثون (في وجوب العدل في الحكم والشهادة)

النداء الحادي والثلاثون:

وجوب العدل في الحكم والشهادة

قال تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" (المائدة:8).

موضوع الآية: في وجوب العدل في الحكم والشهادة، وحرمة ترك العدل من أجل البغض والعداء، والأمر بتقوى الله سبحانه.

معاني الكلمات:

"قَوَّامِينَ للهِ" : جمع قوام، وهو كثير القيام لله تعالى بحقوقه وما وجب له تعالى، وبحقوق الغير أيضا، أي لا يفرط في شيء من ذلك.

"شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ" : جمع شهيد بمعنى شاهد. والقسط: العدل.

"وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ" : اي لا يحملنكم.

"شَنَآنُ قَوْمٍ" : بغض وعداوة الكفار.

"اعْدِلُوا" : في العدو والولي، ولعدل هو خلاف الجور، وهو المساواة بال حيف ولا جور.

"هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" : أي العدل أقرب للتقوى من الجور.

"إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ" : خبير عالم بالأشياء علما دقيقا، لا يخفى عليه شيء.

"بِمَا تَعْمَلُونَ" : أي فيجازيكم به إن خيرا فخير، وإن شرًا فشر.

المناسبة:

لما ذكر الله تعالى المؤمنين في الآية السابقة بما يوجب عليهم الانقياد لأوامره ونواهيه، طالبهم هنا بالانقياد لتكاليفه المتعلقة به أو بعباده.

سبب النزول:

قيل: نزلت هذه الآية في يهود بني النضير، حين ائتمروا على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوحى الله إليك بذلك، ونجا من كيدهم، فأرسل عليه الصلاة والسلام يأمرهم بالرحيل من جوار المدينة، فامتنعوا وتحصنوا بحصونهم، فخرج عليه الصلاة والسلام إليهم بجمع من أصحابه، وحاصرهم ست ليال، اشتد الأمر فيها عليهم فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتفي منهم بالإجلاء، وأن يكف عن دمائهم، وأن يكون لهم ما حملت الإبل، وكان البعض من المؤمنين يرى لو يمثل النبي صلى الله عليه وسلم بهم ويكثر من الفتك بهم، فنزلت الآية لتنهيهم عن الإفراط في المعاملة بالتمثيل والتشويه. فقبل النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود ما اقترحوه.

وقيل: نزلت في المشركين الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام عام الحديبية، كأنه أعاد النبي هنا ليخفف من حدة المسلمين ورغبتهم في الفتك بالمشركين بأي نوع من أنواع الفتك.

المعنى الإجمالي:

اذكر أيها القارئ الكريم ما تقدم من أمر الله تعالى لعباده المؤمنين به، وبلقائه بالعدل، وهذا أمر آخر، وذلك لعظم شأن العدل وأهميته وضرورته في كل شيء، حتى أن أمر السماء والأرض قام على العدل، فاذكر هذا واصغ تسمع ما في هذا النداء من الأمر بالقيام لله تعالى بكل ما أوجب على عباده القيام به من العبادات والآداب والأخلاق والأحكام، وأن يكونوا قوامين لا قائمين فحسب، إذ القوام كثير القيام بالحقوق والواجبات، بخلاف القائم فإنه أقل قياما من القوام.

 وقوله: "للهِ" نفيللشرك في كل ما يقوم به عبد الله المؤمن من عبادات وحقوق وواجبات أمر الله بها وأوجبها على عباده المؤمنين. وكما أوجب تعالى العدل في الأحكام وفي كل ما يقوم به المؤمنون من طاعات لله تعالى، أوجب العدل في أداء الشهادة؛ لأنه بالشهادة تؤدى الحقوق لأصحابها المشهود لهم، فإن جار الشاهد ولم يُقم شهادته على العدل ضاع حق المشهود له مؤمنا كان أو كافرا، غنيا كان أو فقيرا، وبما أن الكل عباد الله فلا يأذن الله تعالى بظلم عبد من عباده بإضاعة حقه، وهذا هو سر وجوب الشهادة بالقسط، أي العدل في قوله عز وجل: "كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ"

 اذكر هذا أيها القارئ، وتأمل قوله تعالى في هذا النداء: "وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا" أي ولا يحملنكم بغض الكافرين وعداوتهم، أو بغض كل من تبغضونه، وعداوة كل من تعادونه لأمر اقتضى بغضه أو عداوته من المؤمنين والكافرين، أو الموحدين والمشركين، لا يحملنكم ذلك البغض على أن تجوروا في الحكم إذا حكمتم، أو في الشهادة إذا شهدتم.

ولأهمية العدل في الأحكام والشهادات لها إذ القاضي يصدر حكمه باعتراف الجاني، أو شهادة اثنين من المؤمنين، أمر تعالى بالعدل مكررا، الأمر الأول: مؤكدا له بأمر آخر، إذ قال عز من قائل: "كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" أي العدل في الحكم والشهادة، وفي كل ما يقوم به العبد لله من طاعات هو أقرب لتقوى الله (عز وجل) التي هي شطر ولاية الله للعبد، لما علمنا من أن أولياء الله هم المؤمنون المتقون، وأعداؤه هم الكافرون الفاجرون، وبناء على هذا فكل ما يُقرب من تقوى الله (عز وجل) أو يحققها فالقيام به واجب أكيد، لا يصح التفريط فيه بحال من الأحوال. 

ويؤكد صحة هذا ويقرره أن ختم الله تعالى هذا النداء العظيم بالأمر بتقواه، إذ قال: "وَاتَّقُوا اللهَ" أي خافوه خوفا يحملكم على القيام التام بما أوجب عليكم القيام بما من سائر التكاليف التي أنزل الكتاب بها وبعث الرسول من أجلها، وبخاصة القيام بالعدل في الأحكام والشهادات، ولنعلم أن الخوف من الله الحامل للعبد على النهوض بالواجبات وأداء الحقوق والأمانات هذا الخوف يُكتسب ويُطلب، وطريق طلبه واكتسابه للحصول عليه هو:

1- ذكر قدرة الله التي لا يعجزها شيء.

2- ذكر ضعف الإنسان وحاجته إلى ربه حتى في أنفاسه التي يرددها.

3- ذكر ما توعد الله تعالى به الفاسقين عن أمره، الكافرين بطاعته.

4- ذكر ما أحل الله بأعدائه من خراب ودمار وهلاك وخسران.

5- ذكر ما فاز به أولياء الله تعالى من كمال وعز وسيادة في الدنيا، وما هو مأمول لهم في الآخرة من نعيم مقيم في دار السلام. بهذا الذكر بالقلب واللسان يوجد الخوف من الله تعالى في القلب، وإذا وجد الخوف كانت التقوى التي هي طاعة الله، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم باعتقاد وقول، وفعل ما أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وبترك ما نهى الله عنه ورسوله من اعتقاد باطل وقول سيئ وعمل فاسد، وهو كل ما حرمه الله ورسوله من الاعتقادات الباطلة، والأقوال الفاسدة الضارة والأعمال كذلك، وحسب العبد أن لا يغفل عن قوله تعالى في ختام هذا النداء وهو: "إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" فإنه يوجد ملكة مراقبة الله تعالى، ومن أصبح يراقب الله تعالى في كل ما يأتي، وما يذر فقد حقق التقوى والولاية الإلهية وأصبح من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون في الدنيا والآخرة، اللهم اجعلنا منهم وتولنا كما توليتهم آمين.

من صور العدل:

العدل بين الأولاد: ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير صلى الله عليه وسلم أنه قال: نحلني أبي نحلا فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاءه ليشهده على صدقتي، فقال: "أكل ولدك نحلت مثله؟" قال: لا، قال: "اتقوا الله واعدلوا في أولادكم" وقال: "إني لا أشهد على جوز" قال فرجع أبي فرد تلك الصدقة.

من صور العدل: العدل مع الكفار:

يقول عبد الله بن رواحة شهيد مؤتة صلى الله عليه وسلم وأرضاه وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم، فقال لهم: والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلي – ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير – وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم. فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.

ما يستفاد من الآية:

1- وجوب القيام بحق الله تعالى على العبد بإخلاص بكل التكاليف التي كلفنا بها، وذلك بذكره وشكره وطاعته.

2- وجوب العدل في الحكم بالقول والشهادة، والعدل مع العدو والولي سواء.

3- أن كفر الكافر لا يمنع من العدل في معاملته.

4- وجوب أداء الشهادات على وجهها من غير محاباة ولا ظلم، فهذه الآية وآية النساء تعالج داء خطيرًا من أكبر الكبائر، وهو كتمان الشهادة وشهادة الزور.

5- وجوب العدل في معاملة الناس قاطبة، سواء كانوا أعداء لو أصدقاء، لقوله سبحانه "وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ" ... الآية.

6- تأكيد الأمر بتقوى الله سبحانه وبيان عاقبتها العاجلة والآجلة.

7- قال الزمخشري: وفي هذا تنبيه عظيم على أن العدل إذا كان واجبا مع الكافرين الذين هم أعداء الله، وكان بهذه الصفة من القوة، فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه.

8- معنى أقرب للتقوى أي التقوى الكاملة التي لا يشذ معها شيء من الخير، وذلك أن العدل هو ملاك كبح النفس عن الشهوة، وذلك ملاك التقوى.