نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء الخامس والثلاثون (في التحذير من الردة عن الإسلام وبيان صفات المؤمنين الصادقين)

نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء الخامس والثلاثون (في التحذير من الردة عن الإسلام وبيان صفات المؤمنين الصادقين)
272 0

الوصف

نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء الخامس والثلاثون (في التحذير من الردة عن الإسلام وبيان صفات المؤمنين الصادقين)

النداء الخامس والثلاثون:

التحذير من الردة عن الإسلام

قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَّرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (المائدة:54).

موضوع الآية:في التحذير من الردة عن الإسلام، وبيان صفات المؤمنين الصادقين.

معاني الكلمات:

"مَن يَّرْتَدَّ" : يرجع إلى الكفر بعد الإيمان، والردة: والرجوع عن الإسلام إلى الكفر أو إلى غير دين.

"أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ" : أي فيهم رِقَّةٌ عليهم رحماء بهم.

"أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ" : أشداء غلاظ عليهم.

"وَاللهُ وَاسِعٌ" : كثير الفضل.

"عَلِيمٌ" : أي بمن هو أهله.

المناسبة:

بعد أن نهى الله سبحانه عن موالاة الكافرين، وبين أن الذين يبادرون إلى تواليهم مرتدون، ذكر استغناءه عن أهل الردة واعتماده على صادقي الإيمان، الذين يحبهم، ويؤثرون حبه من إقامة الحق والعدل على سائر ما يحبون من مال ومتاع وولد.

سبب النزول:

قال ابن إسحاق: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب إلا ثلاثة مساجد، مسجد المدينة، ومسجد مكة، ومسجد جواثي، وفي الحديث أول موضع جمعت فيه الجمعة بعد المدينة جواثي، وكانوا في درتهم على قسمين:

1- قسم نبذ الشريعة كلها وخرج عنها.

2- وقسم نبذ وجوب الزكاة واعترف بوجوب غيرها، قالوا: نصوم ونصلي، ولا نزكي.

فقاتل الصديق جميعهم، وبعث خالد بن الوليد إليهم بالجيوش، فقالتهم وسباهم على ما هو مشهور من أخبارهم.

أصح ما قيل في نزل قوله تعالى: "فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ" أنها نزلت في الأشعرين، ففي الخبر أنها لما نزلت قد بعد ذلك تيسير سفائن الأشعريين وقبائل اليمن من طريق البحر، فكان لهم بلاء الإسلام في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت عامة فتوح العراق في زمن عمر رضي الله عنه على يدي قبائل اليمن(1) ((تفسير القرطبي 6/ 220)).

المعنى الإجمالي:

هذا النداء فيه خطاب من الله على وجه التحذير والوعيد، يخبر تعالى أنه الغني عن العالمين، وأنه من يرتد عن دينه فلن يضر الله شيئا، وإنما يضر نفسه، وأن لله عبادا مخلصين ورجالا صادقين، قد تكفل الله الرحمن الرحيم بهدايتهم، ووعد بالإتيان بهم، وأنهم أكمل الخلق أوصافًا، وأقواهم نفوسًا، وأحسنهم أخلاقًا، أجل صفاتهم أن الله يحبهم ويحبونه، فإن محبة الله للعبد هي أجل نعمة أنعم بها عليه، وأفضل فضلية تفضل الله بها عليه، وإذا أحب الله عبدا يسر له الأسباب وهون عليه كل عسير، ووقه لفعل الخيرات وترك المنكرات، وأقبل بقلوب عباده إليه بالمحبة والوداد.

قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا" (مريم:96)، محبة في قلوب الخلق، ومن لوازم محبة العبد لربه أنه لا بد أن يتصف بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا في أقواله وأعماله وجميع أحواله، كما قال تعالى: "قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (آل عمران:31)، كما أن من لوازم محبة الله للعبد أن يكثر العبد من التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن الله: "وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطيه ولئن استعاذني لأعيذنه".

ومن لوازم محبة الله معرفته تعالى والإكثار من ذكره، فإن المحبة بدون معرفته بالله ناقصة جدا، بل غير موجودة وإن وجدت دعواها، ومن أحب الله أكثر من ذكره، وإذا أحب الله عبدا قبل منه اليسير من العمل وغفر له الكثير من الزلل.

وها هو ذا المولى سبحانه وتعالى يحذر عباده المؤمنين في هذه الآية من الردة عن الإسلام، والعودة إلى الشرك، وهذا نادر، وإنما المتوقع هو التهود والتنصر – والعياذ بالله – ويدل لذلك تحذيره في النداء الرابع والثلاثين قبل هذا، إذ حرم موالاة اليهود والنصارى فقال: "لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ" ، إذ هذا سبيل التهود والتنصر ثم أعلم أن من تولاهم أصبح منهم وبذلك يكون قد ارتد عن الإسلام ودخل في اليهودية أو النصرانية – والعياذ بالله تعالى – من السلب بعد العطاء ومن الضلال بعد الهدى.

وها هو ذا سبحانه وتعالى يناديهم فيقول: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَّرْتَدَّ" أييرجع "مِنْكُمْ" أيها المسلمون "عَن دِينِهِ" الذي هو الإسلام، وقل لي: بم تكون الردة؟ إنها تكون باعتقاد اليهودية أو النصرانية وحبهم وموالاتهم وشهود معابدهم وعباداتهم، والتزيي بزيهم، والسير في ركابهم، بفعل ما يفعلون وترك ما يتركون تعبدا وتدينا، فلنذكر هذا ولا ننسه، ونحذر كل مسلم ومسلمة من الوقوع فيه، فإنه الردة الموجبة لغضب الله وعقابه. كان هذا في التحذير من الردة. أما صفات المؤمنين الصادقين فقد بينها الله تعالى بقوله: "فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ"

فأولى هذه الصفات حب الرحمن لهم ولنعم هذه الصفة.

وثانيها: حبهم لله تعالى وأعظم بها نعمة.

وثالثها: كونهم أذلة على المؤمنين، أي هينين لينين.

ورابعها: أعزة على الكافرين، أي أقوياء أشداء.

وهاتان الصفتان: الرابعة والثالثة جاءت في نعت الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، إذ قال تعالى: "مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ"

وخامسة الصفات: يجاهدون في سبيل الله، أي كلما دعا داعي الجهاد حملوا سلاحهم وخرجوا لا هدف لهم ولا غاية سوى رضى الله ونصرة دينه وأوليائه.

وسادسة الصفات: أنهم لا يخافون في اعتقاد الحق وقوله والعمل به وإظهاره والدعوة إليه لومة لائم، بل ولا عداء معاد ولا حرب محارب. وذلك لكمال علمهم وصحة إيمانهم وعظيم يقينهم. وقل لي أيها القارئ الكريم بم ختم الله توجيهه لأوليائه في هذا النداء العظيم؟ إنه ختمه بقوله: "ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ"

إن هذه الصفات الست التي لا يقدر على إعطائها إلى الله، ولا يستحقها إلا أولياء الله، هي من فضل الله تعالى، وفضل الله لا يعطى إلا لمن طلبه ورغب فيه، وصدق في طلبه، وسلك السبيل المحقق له والموصل إليه، وقل لي بم يطلب هذا الفضل العظيم؟ فإني أعلمك بأنه يطلب بالإيمان بالله، والكفر بالطاغوت، إذ قال تعالى: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" وإن قلت: ما كيفية الإيمان بالله، والكفر بالطاغوت؟ قلت: إنها تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله هو أن يؤمن بالله ربا لا رب سواه. وإلها لا إله غيره، ويعلن ذلك بقوله: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويعبد الله بما شرعه من عبادة بين كيفيتها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعبد مع الله غيره بأية عبادة ويسخط ولا يرضى بعبادة غير الله أبدا.

وأخيرا أيها القارئ وأحسبك قد فهمت نداء الله وما تضمنه من هداية وهدى، فإليك وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبه أبي ذر، فافهمها واعمل بها تكمل وتسعد. أخرج ابن كثير في تفسيره رواية أحمد في مسنده (رحمه الله) إذ قال عن أبي ذر: قال: أمرني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع: "أمرني بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني، ولا أنظر إلى من هو فوقي (هذا في أمور الدنيا لا أمور الدين) وأمرني أن أصل رحمي وإن أدبرت (قطعت)، وأمرني أن لا أسأل أحدا شيئا، وأمرني أن أقول الحق وإن كان مرا، وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم، وأمرني أن أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنهن من كنز تحت العرش".

فاعلم أيها القارئ الكريم أنك إذا حققت الصفات الست التي تضمنتها آية هذا النداء وأضفت إليها هذه الصفات السبع فقد بلغت ذروة الكمال، وحزت أفضل الخصال، ونلت ما لا ينال إلا بتوفيق وإفضال وإنعام ذي الجلال والإكرام. وسلام عليك في الفائزين.

من مفاهيم الآية: الحبّ في الله مقرّه القلب

لا تنجح الدعوة إلى الله إلا إذا اتجهت إلى القلب والعقل معًا، فللإنسان عقل يدرك، وقلب يحب، وجسم يتحرك، وغذاء العقل العلم، وغذاء القلب الحب. فالدين شطره علم، وشطره حب. وهذه الآية تتجه إلى القلب؛ أي تتجه إلى الحب، وقد شاءت حكمة الله أن يجعل العلاقة بينه وبين المؤمنين علاقة حب، قال تعالى: "يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ" لذلك لم يرضَ أن يأتيه الإنسان مكرهًا، قال تعالى: "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" (البقرة: 256).

وعلى الإنسان أن يأتي الله عز وجل طائعًا، عن حب، وبمبادرة منه؛ أن يأتيه وبإمكانه ألا يأتيه، وأن يصلي وبإمكانه ألا يصلي، وأن يضبط حركته في الحياة وبإمكانه أن يتفلّت. فالعبادة طاعة طوعية، وليست قسرية ولا إكراه فيها، فأنت مخير فيما كلفت، بإمكانك أن تأتي المسجد، وبإمكانك أن تذهب إلى الملهى، بإمكانك أن تتزوج وأن تزني، بإمكانك أن تأكل المال الحلال، أو تأكل المال الحرام، بإمكانك أن تكون محسنًا، وبإمكانك أن تكون مسيئًا، وبإمكانك أن تحب زوجتك أو أولادك، أو تكرههم، ولكل عمل نتيجته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به"

(أخرجه الشيرازي عن سهل بن سعد والبيهقي عن جابر). فلأنه مخير وآثر طاعته ومحبته والإقبال عليه، فهو يحبه. ومن لا يحب الله عز وجل، وينبطح أمام القوي ويستعلي على المؤمن؟؟ ويقول بعض العلماء: من أعجب العجب أن تعرف الله ثم لا تحبه، ومن أعجب العجب أن تحبه ثم لا تطيعه. فالذي يرتد عن دينه لا يحب الله، وسيذهب الله به ويأتي بقوم لا يرتدون عن دينه.

أما الذي لا يحب الله، وينبطح أمام القوي ويستعلي على المؤمنين ويقهرهم، ويكون أمام الأقوياء ذليلًا، فإنه يخالف صفات المؤمنين الذين هم كما قال تعالى: "أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" (المائدة: 54). إنهم يجاهدون بأموالهم، ووقتهم، وخبرتهم، وعلمهم، ولا تأخذهم في الله لومة لائم. وقال تعالى: "الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ" (الأحزاب: 39).

ومن عرف الله عزّ وجلّ وأحبه حقق الهدف من وجوده، ولا إيمان لمن لا محبة له، فإذا عرفته وأحببته حققت الهدف من وجودك. والحب في الله عين التوحيد، والحب مع الله عين الشرك، والله عز وجل أراد أن تكون العلاقة بيننا وبينه علاقة حب.

وعلامة إيمانك أنك تحب الله، وأن يضطرب قلبك إذا ذكرته. وإن لم تحب الله فلا بدّ من أن تحب شيئًا آخر، لأن الإنسان الذي لا يحب ليس من بني البشر. ومحبة الله أصل، وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وحب صحابته جميعًا وحب المؤمنين، وحب المساجد، وحب القرآن الكريم، وحب العمل الصالح؛ جميع ألوان الحبّ هذه فروع لحب الله. لذلك هناك حب في الله، وحب مع الله، قال تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ" (البقرة: 165).

أما الشهوات التي أودعها الله في الإنسان فلها جانبان: جانب مسموح وجانب محرم، فصومك محبة لله، يمنعك وأنت في بيتك وحدك أن تأكل ما تشتهي في نهار رمضان، أو أن تشرب الماء العذب الفرات في هذا الشهر. من أجل أن نصل إلى الله عز وجل، وأن نرتقي إليه، أودع فينا الشهوات، وبين لنا المجال المسموح به للتعبير عن هذه الشهوات، والمجال المحرّم الاقتراب منه، فأودع فينا الحب والعشق، وسمح لنا بالزواج الشرعي، وإنجاب الأولاد وحرم علينا الزنا.

أودع فينا حب المال، وسمح لنا بالكسب المشروع، وحرم علينا الكسب غير المشروع، أودع فينا حب العلو في الأرض، وسمح لنا أن نعلو في الأرض بطاعة الله، وبطلب العلم، وبخدمة الخلق، وحرم علينا أن نعلو في الأرض بسبب قوتنا، وقهر الناس، فجميع الشهوات التي أودعها الله فينا فيها جانب مسموح به، وهو ما قاله الله عز وجل: "بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" (هود: 86).

وفيها جانب محرم، قال تعالى: "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" (آل عمران: 14)، وهذه الشهوات لم يودعها الله فينا إلا لنرقى بها إلى رب الأرض والسماوات.

ويرقى الإنسان بالشهوات مرتين: صابرًا وشاكرًا، وفي الحالتين يتقرب إلى الله، ويرقى إليه. فلو كانت امرأة تمشي في الطريق بأبهى زينة، ومفاتنها كلها ظاهرة، وليس في الأرض كلها قانون يمنع النظر إليها، فإن أنت صبرت عن النظر إليها، وغضضت الطرف محبة لله، وطاعة لله، وتقربًا إلى الله، فإنك ترقى إلى الله بالشهوات صابرًا. وإن تزوجت امرأة صالحة تنظر إليها بملء عينيك شاكرًا الله على عطائه، فأنت بالشهوات ترقى شاكرًا، وإذا ترفعت عن صفقة مشبوهة، أو طريقة كسبها محرمة فإنك ترقى إلى الله صابرًا، وإذا كسبت مالًا حلالًا، واشتريت به طعامًا وشرابًا أطعمت به أهلك وأكرمتهم، فإنك ترقى إلى الله شاكرًا، فلولا الشهوات التي أودعها الله فينا ما ارتقينا إلى رب الأرض والسماوات.

ولا تنسَ أيها المسلم أن الدنيا تنتهي بالموت، لكن عطاء الله أبدي سرمدي لا ينتهي، ويخطئ الإنسان إن أحب العاجلة ولم يلتفت إلى الآجلة، فالموت ينهي كل شيء؛ ينهي قوة القوي، وضعف الضعيف، وغنى الغني، وفقر الفقير، ووسامة الوسيم، ودمامة الدميم، فالدنيا تنتهي بالموت، ولا يليق بعطاء الله أن ينتهي بالموت، لأن عطاء الله أبدي سرمدي، قال تعالى: "كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ (21)" (القيامة: 20 – 21).

وهناك محبة عقلية ومحبة حسية، ومن ارتقى إلى الله عز وجل يغلب فيه الحب العقلي على الحب الحسي.

ولنا في سيدنا يوسف عليه السلام خير قدوة ومثال على تفضيل المحبة العقلية على الحسية قال تعالى: "قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ" (يوسف: 33).

هل هناك شاب في الأرض لا يحب أن يستمتع بامرأة، مثل امرأة العزيز بارعة الجمال؟

هذا النبي الكريم فضّل السجن وما فيه من متاعب مع طاعة الله، على أن يمتع نفسه بامرأة لا تحل له. فكلما ارتقيت إلى الله يغلب عليك الحب العقلي، قال تعالى: "وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (216)" (البقرة: 216).

ومن ادعى حب الله عز وجل، ولم يستقم على أمره فدعواه كاذبة، قال عز وجل: "قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ" (آل عمران: 31). وقال عز وجل: "لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ" (آل عمران: 92)، فالشهوات وسيلة لنرقى بها إلى رب الأرض والسماوات.

ونحن أمة الإسلام قد أخطأنا خطأً كبيرًا في علاقتنا مع الطرف الآخر؛ مع الأقوياء في العالم الغربي، لأننا نحبهم ولا يحبوننا، قال تعالى: "هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ" (آل عمران: 119)، فإذا كرهت مَنْ أمرك الله أن تكرهه، وأحببت من أمرك الله أن تحبه كنت على منهج الله، لذلك حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات. والإنسان يحب المكاره محبة عقلية، ويبتعد عن الشهوات مع أنه يحبها محبة حسية، والله عز وجل لا يعذب أحبابه الذين يخلصون له الحب، ويصدقون في حبهم له، أما من يدعي أنه يحب الله، فالله عز وجل سوف يعذبه، قال تعالى: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ" (المائدة: 18)، ويؤكد الله عز وجل أن دعوى محبته لا تقدم ولا تؤخر، وأن الله لا يعذب أحبابه، وهذه بشارة كبيرة جدًا، أما إذا كان الله يبتلي المسلمين بما لا يحتملونه، فمعنى ذلك أنهم يدعون محبته.

ومن آثر شيئًا على محبة الله، فالطريق إلى الله عز وجل مسدود، قال تعالى: "قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)" (التوبة: 24).

فإذا آثرت بيتًا ليس لك واغتصبته، أو آثرت تجارة لا ترضي الله، وإذا آثرت أن تكون مع عشيرتك على باطل فالطريق إلى الله مسدود. وحينما تتعارض مصلحتك مع النص الشرعي، وتؤثر طاعة الله، وحينما تركل صفقة رابحة جدًّا لكنها لا ترضي الله فإنك تجد حلاوة الإيمان، وحلاوة الإيمان شيء يصعب تصوره، فهي تجعلك بطلًا، ومتميزًا، وتجعلك تؤثر ما عند الله على الدنيا بأكملها، وحلاوة الإيمان تهبك رؤية صحيحة، ومنطقًا سليمًا، ولسانًا صادقًا، وأمنًا، وطمأنينة، وسكينة، وسعادة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّه وَرَسُولُهُ، أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ"

(متفق عليه). ومن أحبه الله ألقى محبته في قلوب الخلق، قال تعالى: "وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي" (طه: 39)، وليس في الأرض شيء أثمن من أن يحبك الخلق، وأن يثقوا بك، والحب جوهر الدين، ومن أحبّه الله تعالى منحه الحكمة، قال تعالى: "وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا" (البقرة: 269)، وأضفى على نفسه الأمن، قال تعالى: "فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (82)" (الأنعام: 81 – 82).

والفرق بين المؤمن وغير المؤمن فرق كبير جدًا. فأحيانًا ترى خاتم ألماس ثمنه أربعة ملايين دولار، وترى خاتمًا يشبه الخاتم ذاته وقد يكون أكبر منه، ولكن ثمنه خمسة دولارات مع أن الأصل واحد، فكلاهما مصنوع من الكربون، وهناك أيضًا إنسان فحمة، وإنسان ألماسة، وإذا أحب العبدُ الله، وأحبه الله وصل إلى كل شيء. والحب له ثمن باهظ، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله غالية.

ما يستفاد من الآية:

1- إخبار القرآن الكريم بالغيب وصدقه في ذلك، فكان آية أنه كلام الله.

2- فضيلة أبي بكر والصحابة والأشعريين قوم موسى الأشعري وهم أهل اليمن.

3- فضل حب الله والتواضع للمؤمنين وإظهار العزة للكافرين.

4- فضل الجهاد في سبيل الله.

5- فضل قول الحق والثبات عليه وعدم المبالاة يلوم ويعذل في ذلك.

6- في هذه الآية أن هذه الصفات الست التي ذكرها الله سبحانه، ومنها أن يكون أحدهم متواضعا لأخيه متعززا على عدوه أن هذه صفات المؤمنين الكمل، كما ذكر ذلك ابن كثير رحمه الله.

7- أن من علامة حب الله تعالى للمؤمن أن يكون لين الجانب متواضعًا لإخوانه المؤمنين، متسربلًا بالعزة حيال الكافرين والمنافقين.