نداءات الرحمن لأهل الإيمان_ النداء الواحد والسبعون (وجوب التثبيت في الأخبار )

نداءات الرحمن  لأهل الإيمان_ النداء الواحد والسبعون     (وجوب التثبيت في الأخبار )
396 0

الوصف

النداء الواحد والسبعون 
وجوب التثبيت في الأخبار

قال تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِّنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (الحجرات: 6-8).. 

  * موضوع الآيات: 

في وجوب التثبت في الأخبار، وذلك لما يترتب على ذلك من المفاسد أو ذهاب مصالح. 

*  معاني الكلمات:

 (فَاسِقُ): أي ذو فسق – وهو المرتكب كبيرة من كبائر الذنوب. 

 ( بِنَبَأٍ): بخبر. 

 (فَتَبَيَّنُوا): أي اطلبوا الحقيقة، وتثبتوا قبل أن تقولوا أو تفعلوا أو تحكموا. 

 (أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ): أي خشية إصابة قوم بجهالة. 

 (فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ): أي فتصيروا على فعلكم الخاطيء نادمين، متمنين أنه لم يقع. 

 (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ): فاحذروا أن تكذبوا أو تقولوا الباطل، فإن الوحي ينزل وتفضحون بكذبكم وباطلكم. 

 (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمْرِ): أي الذي يختبرون به على خلاف الواقع. 

 (لَعَنِتُّمْ): لوقعتم في العنت والمشقة الشديدة والهلاك والإثم. 

 (وَزَيَّنَهُ): حسنه حبهم للإيمان. 

 (الْكُفْرَ): تغطية نعم الله تعالى بجحودها. 

 (وَالْفُسُوقَ): الخروج عن الحد. 

 (وَالْعِصْيَانَ): المخالفة. 

 (أُولَئِكَ): البعض المتثبتون. 

 (هُمُ الرَّاشِدُونَ): الثابتون على دينهم – والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مأخوذ من الرشاد، وهو إصابة الحق واتباع طريق الاستقامة. 

 (فَضْلًا مِّنَ اللهِ وَنِعْمَةً): أي أنعم الله عليهم. 

 (وَاللهُ عَلِيمٌ): بأحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل. 

 (حَكِيمٌ): في تدبيره لعباده في إنعامه عليهم بالتوفيق. 

  * سبب النزول:

هو أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق ليأتي بزكاة أموالهم، وكان بينهم وبين أسرة الوليد عداء الجاهلية، فذكره الوليد وهاب أن يدخل عليهم دارهم، وهذا من وسواس الشيطان، فرجع وستر على نفسه الخوف الذي أصابه، فذكر أنهم منعوه الزكاة، وهموا بقتله فهرب منهم، فعضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم بغزوهم، وما زال كذلك حتى أتى وقد منهم يسترضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستعتب عنده خوفًا من أن يكون قد بلغه منهم سوء، فأخبروه بأنهم على العهد، وأن الوليد رجع من الطريق ولم يصل إليهم، وبعث الرسول خالد بن الوليد من جهة، فوصل إليهم قبل المغرب، فإذا بهم يؤذنون ويصلون المغرب والعشاء، فعلم أنهم لم يرتدوا، وأنهم على خير، والحمد لله، وجاء بالزكوات، وأنزل الله هذه الآية. 

  المناسبة بين الآيات في سورة الحجرات:

بعد أن أمر الله تعالى المؤمنين بأمرين وهما طاعة الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم، وخفض الصوت عند الرسول صلى الله عليه وسلم لبيان وجوب احترامه، أردفه مجرد الأقوال، منعًا من إلقاء الفتنة بين أفراد المؤمنين وجماعاتهم، وهذا أدب اجتماعي عام وضروري للحفاظ على وحدة الأمة، واستئصال أسباب المنازعات فيما بينهما. 

*  المعنى الإجمالي:

 ينادى الحق عباده المؤمنين قائلا: "يا أيها الذين آمنوا" يا من آمنتم بي وبوحدانيتي، وآمنتم بكمالي وبعلمي وبرحمتي وبحكمتي، وآمنتم بأسمائي الحسنى وصفاتي الفضلى، انتبهوا وتحققوا قبل الإقدام على اتخاذ القرار وإلا فستندمون أشد الندم، فقد يكون مصدر الخبر فاسقا، أو عاصيا أو منحرفا يريد أن يسبب لكم الأذى. 

فكم من امرأة طلقت بخبر كاذب، وكم من حرب قامت بخبر كاذب، ولولا أن هذا خطأ كبير جدًّا يمكن أن يضيع مصالح المسلمين لما جاء به ذكر حكيم، وهذه الآية يحتاجها كل الناس وخصوصًا أصحاب المناصب والقادة، والعاقل من تحقق من الأخبار التي تصله قبل الشك في الآخرين. 

وفي هذه الآية يرشد الله عباده المؤمنين بأدب من الآداب التي على أولي الألباب التأدب بها واستعمالها، وهو أنه إذا أخبرهم فاسق بنبأ أي خبر أن يتثبتوا في خبره، ولا يأخذوه مجردًا، فإن في ذلك خطرًا كبيرًا، ووقوعًا في الإثم، فإن خبره إذا جعل بمنزلة خبر الصادق العدل حكم بموجب ذلك ومقتضاه، فحصل من تلف النفوس والأموال بغير حق بسبب ذلك الخبر ما يكون سببًا للندامة، بل الواجب عند سماع خبر الفاسق التثبت والتبين، فإن دلت الدلائل والقرائن على صدقه، عمل به وصدق، وإن دلت على كذبه كذب، ولم يعمل به، ففيه دليل على أن خبر الصادق مقبول، وخبر الكاذب مردود، وخبر الفاسق متوقف فيه، ولهذا كان السلف يقبلون روايات كثير من الخوارج المعروفين بالصدق ولو كان فاسقًا، ثم قال سبحانه: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) بين أظهركم، وهو الرسول الكريم البار الراشد، الذي يريد بكم الخير، وينصح لكم، وتريدون لأنفسكم من الشر والمضرة ما لا يوافقكم الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، ولو يعطيكم في كثير من الأمر لشق عليكم وأعنتكم، ولكن الرسول يرشدكم والله تعالى يحبب إليكم الإيمان ويزينه في قلوبكم بما أودع في قلوبكم من محبة الخلق وإيثاره، وبما نصب على الحق من الشواهد والأدلة على صحته، وقبول القلوب والفطر له، وبما يفعله تعالى بكم من توفيقه للإنابة إليه، ويكره إليكم الكفر والفسوق، أي الذنوب الصغار بما أودع في قلوبكم من كراهة الشر وعدم إرادة فعله، وبما نصبه من الأدلة والشواهد على فساده ومضرته وعدم قبول الفطر له، وبما يجعل الله في القلوب من الكراهة له. 

 (أُولَئِكَ) الذين زين الله الإيمان في قلوبهم وحببه لهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان (هُمُ الرَّاشِدُونَ) أي الذين صلحت علومهم وأعمالهم، واستقاموا على الدين القويم والصراط المستقيم. 

وضدهم الغاوون الذي حبب إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وكره إليهم الإيمان، والذنب ذنبهم، فإنهم لما فسقوا طبع الله على قلوبهم، ولما زاغوا أزاع الله قلوبهم، ولما لم يؤمنوا بالحق لما جاءهم أو مرة قلب أفئدتهم وقوله (فَضْلًا مِّنَ اللهِ وَنِعْمَةً) أي ذلك الخير الذي حصل لهم هو بفضل الله وإحسانه، لا بحولهم وقوتهم. 

 (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ): عليم بمن يشكر النعمة فيوفقه لها ممن لا يشكرها ولا تليق به، فيضع فضله حيث تقتضيه حكمته. 

  *  ما يستفاد من الآيات:

1- بيان شرف منزلة النبي صلى الله عليه وسلم ومقامه. 

2- وجوب التثبيت في الأخبار ذات الشأن، التي قد يترتب عليها أذى أو ضرر بمن قيلت فيه. 

3- حرمة التسرع المفضي بالأخذ بالظنة، فيندم الفاعل لذلك في الدنيا والآخرة. 

4- من أكبر النعم على المؤمن تجيب الله تعالى الإيمان إليه وتزيينه في قلبه، وتكريه الكفر إليه والفسوق والعصيان، وبذلك أصبح المؤمن أرشد الخلق بعد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. 

5- أن الله سبحانه عليم بكل الأمور الحادثة والمستقبلة، حكيم في تدبير شئون خلقه وفي أقواله وأفعاله وشرعه وقدره. 

6- كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو دائمًا بمضمون الآية (7).( ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم، وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ) الآية. أخرج الإمام أحمد والنسائي عن أبي رفاعة الرزقي عن أبيه قال: لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استووا حتى أثني على ربي عز وجل" فصاروا خلفه صفوفًا فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم لك الحمد كله – اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت. ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك. اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. اللهم أسألك النعيم يوم العيلة. والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائد بلك من شر ما أعطيتنا ومن شر ما منعتنا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا كفره والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين وأحيينا مسلمين وألحقنا بالصاحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذي يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك. اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب.. إله الحق".   

  نصيحة جامعة

أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن سعيد بن المسيب قال: كتب إلى بعض إخواني من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم: أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرًّا وأنت تجد لها في الخير محملًا ومن عرض نفسه للتهم فلا يلومن إلا نفسه، ومن كتم سره كانت الخيرة في يده، وما كافأت من عصى الله تعالى فيك بمثل أن تطيع الله فيه، وعليك بإخوان الصدق، فكن في اكتسابهم فإنهم زينة في الرخاء وعدة عند عظم البلاء، ولا تتهاون بالحلف فيهينك الله تعالى، ولا تسألن عما لم يكن حتى يكون، لا تضع حديثك إلا عند من يشتهيه، وعليك بالصدق وإن قتلك، واعتزل عدوك واحذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا من خشي الله، وشاور في أمرك الذين يخشون ربهم بالغيب.