نداءات الرحمن لأهل الإيمان _ النداء الثالث والسبعون ( النهي عن سوء الظن)

الوصف
النداء الثالث والسبعون
النهي عن سوء الظن
قال تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾ (الحجرات: 12)..
* موضوع الآية:
النهي عن سوء الظن بالمسلمين، وتحريم التجسس والغيبة ، ووجوب تقوى الله عز وجل.
* معاني الكلمات:
(اجْتَنِبُوا): أي ابتعدوا.
(كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ): أي التهم التي ليس لها ما يوجبها من الأسباب والقرائن.
(إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ): أي ذنب مؤثم موجب للعقوبة عليه. كظن السوء بأهل الخير من المؤمنين.
(وَلاَ تَجَسَّسُوا): التجسس هو البحث عن العورات والمعايب، وكشف ما ستره الناس.
(وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا): الغيبة ذكرك أخال بما يكره في غيبته، وإن كان العيب فيه.
(أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا): أي لا يحسن به حب أكل لحم أخيه ميتًا ولا حيًا.
(فَكَرِهْتُمُوهُ): أي فكما كرهتم أكل لحمه ميتًا، فاكر هوه حيًا، هو الغيبة.
(وَاتَّقُوا اللهَ): عقاب الله في الاغتياب بأن تتوبوا منه.
(إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ): يقبل توبة التائبين، رحيم بهم، فيجعل سبحانه صاحب التوبة كمن لم يذنب.
* المناسبة بين الآية وأخواتها في سورة الحجرات:
هذا النداء الخامس من نداءات الرحمن لعباده المؤمنين من سورة الحجرات، وكل هذه النداءات الخمسة تدور حول إصلاح الفرد المؤمن في المجتمع الإسلامي، وتربية المؤمنين، وتهذيب أخلاقهم، وتزكية نفوسهم، والسمو بآدابهم؛ ليكونوا بذلك أهلًا للإيمان بالله ولقائه.
فالنداء الأول:
دعا المؤمن أن لا يقدم رأيه على الكتاب والسنة بحال من الأحوال، لتبقى الشريعة الإسلامية هي الحكم، وإليها التحاكم، فما شرعته فهو الشرع، وما أوجبته فهو الواجب، وما حرمته فهو الحرام. وهذا النداء قرر الأدب الواجب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعلماء الأمة.
والثاني:
الأدب سمة من سمات أهل الإيمان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يحل التخلي عنها أبدًا، إذ هي ميزة الأمة الإسلامية.
والثالث:
أوجب التثبت والتروي في إصدار الأحكام في كل قول وحادثة، حتى لا يقع الفرد أو الأمة في خطر يزعزع أمنها، ويحط من قدرها، أو يحملها ما هي في غنى عنه.
والرابع:
حرمة السخرية والاستهزاء بالمؤمن واحتقاره والانتقاض من حقه، كما حرم ألقاب السوء المفضية إلى النزاع والقتال بين المؤمنين، لأنهم أمة واحدة.
وهذا النداء الخامس
من النداءات، فقد حرم على المؤمن اجتناب كثير من الظن بإخوانه المؤمنين.
* المعنى الإجمالي:
أدب الله عباده المؤمنين بآداب إن تمسكوا بها دامت المودة والوئام بينهم. هذه الآداب والإرشادات لما ينبغي مراعاته في حق المسلم إذا غاب،بعد بيان ما يجب مراعاته في حق المسلم وهوحاضر، من ترك السخرية به واللمز عليه والتنابز معه بالألقاب.
وهذا القسم مشمل على ثلاثة أمراض:
1- الظن السيئ.
2- تتبع عورات أخيك.
3- إشاعة عوراته بين الناس بالغيبة.
وهذه الصفات تتنافى مع الإيمان الصحيح، ولا يصح أن تكون في المؤمنين؛ ولذا قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ) أي ابتعدوا عن التهمة والتخون وإساءة الظن بالأهل والناس، ولا سيما الظن الخالي من الحقيقة والقرينة؛ لأن ذلك يجلب بغض المسلم وعداوته، وذلك محرم شرعًا. ( إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) أي إن في بعض الظن إثمًا وذنبًا يستحق صاحبه العقوبة عليه، قال عمر رضي الله عنه: لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرا، وأنت تجد لها في الخير محملا. وفي الحديث: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتعبوا عوراتهم، فإن من يتبع عورة أخيه يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفحه ولو في جوف بيته" أخرجه الحافظ أيو يعلى.
وقوله تعالى: (وَلاَ تَجَسَّسُوا) أي لا يتجسس المؤمن على المؤمن بتتبع عورته، ومعايبه بالبحث عنها والاطلاع عليها لما في ذلك من الضرر الكبير، وكالتجسس التحسس، إلا أن التحسس غالبا يكون في الخير والتجسس لا يكون إلا في الشر والأذى، وقد حرم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله في الصحيح: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا". فقد اشتمل هذا الحديث على المحرمات الآتية:
1- الظن السيئ بالمؤمنين وخاصة أهل الصلاح منهم.
2- حرمة التجسس وهو تتبع أحوال المؤمن في الخفاء للاطلاع عليها، لإلحاق الضرر به.
3- التحسس وهو كالتجسس إلا أنه تتبع أحوال المؤمن لمعرفة النقص لإكماله، وسد حاجته الضرورية، وما دام تتبعا في الخفاء فلا ينبغي، وإن أراد شيئا فليسأل المؤمن: هل لك حاجة؟ أتشكو من شيء؟ إلى غير ذلك ولا يتحسس عليه.
4- حرمة النجش وهو أن يزيد في بضاعة معروضة للبيع يزيد في الثمن وهو لا يريد شراءها.
5- حرمة الحسد وهو تمني زوال النعمة عن أخيه لتحصل له. أو لا تحصل له، وإنما يحرمها المؤمن الذي أنعم الله تعالى عليه بها.
6- حرمة التباغض، فلا يحل لمؤمن أن يبغض أخاه المؤمن، وإن بغضك أخوك فلا تبغضه.
7- حرمة التدابر وهو الهجران، وعدم التلاقي والتحدث مع بعضهما بعضا بحيث كل يعطي ظهره للآخر.
8- وجوب تحقيق الأخوة بين المؤمن والمؤمن، وهذا الواجب يتحقق بإسداء المعروف والإحسان، وكف الأذى عن أخيه، فلا ظن سوء، ولا تجسس، ولا تحسس، ولا تناجش، ولا تحاسد، ولا تباغض، ولا تدابر. بهذا الفعل والترك تتحقق الأخوة الإيمانية .
وقوله تعالى في هذا النداء: (وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا) أي بأن يذكر المؤمن في غيبته بما يكره أن يذكر به، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة فقال صلى الله عليه وسلم للسائل: "ذكرك أخاك بما يكره" قطعا هذا في حال غيابه عن المجلس، فقال السائل: أرأيت إن كان في أخي ما يكره؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " إن كان فيه ما يكره فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما يكره فقد بهته"، والبهتان أعظم. وهو أسوأ أنواع الغيبة، وقوله تعالى: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا) والجواب معلوم هو: لا ، لا قطعا، إذا فكما عرض عليكم لحم أخيكم ميتا فكرهتموه فاكرهوا إذا أكل لحمه حيا، وهو عرضه، والعرض أعز وأغلى من الجسم، وإليك هذا البيت من الحكمة فاحفظه وتأمله:
فَإِنْ أَكَلُوا لَحْمِي وَفَّرْتُ لُحُومَهُمْ وَإِنْ هَدَمُوا مَجْدِي بَنَيْتُ لَهُمْ مَجْدَا
وقوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللهَ) أي في غيبة بعضكم بعضا، فإن الغيبة من عوامل الدمار والخراب والفساد بين المؤمنين، وقوله تعالى: (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) جملة تعليلية للأمر بالتوبة، إذ من اتقى الله خافه وترك الغيبة وتاب. فأعلمهم الله (عز وجل) أنه تواب رحيم يقبل توبة من تاب، ويرحمه فلا يعذبه بحال من الأحوال.
* ما يستفاد من الآية:
1- وجوب اجتناب كل ظن لا قرينة ولا حال قوية تدعو إلى ذلك.
2- حرمة التجسس أي تتبع عورات المسلمين، وكشفها واطلاع الناس عليها.
3- حرمة الغيبة والنميمة، وهي نقل الحديث على وجه الإفساد، وقد أجاز العلماء رحمهم الله تعالى ذكر الشخص وهو غائب في مواطن:
أ- التظلم بأن يذكر المسلم مَنْ ظلمه لإزالة ظلمه.
ب- الاستعانة على تغيير المنكر بذكر صاحب المنكر.
ج- الاستفتاء نحو قول المستفتي ظلمني فلان بكذا.
د- تحذير المسلمين من الشر بذكر فاعله بقصد أن يحذروه.
ه- المجاهر بالفسق لا غيبة له.
و- التعريف بلقب لا يعرف الرجل إلا به: كالأعمش والأعرج ونحو ذلك.
والغيبة عادة مرذولة وصفة مستهجنة كثيرًا ما أودت بالصلات وأثارت الأحقاد، وشتتت من جمع، وفرقت من شمل، وهي مع هذا عذابها شديد وعقابها أليم، وهي بالفساق أولى، فاتقوا الله واجتنبوها، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم، إن مقتضى الإيمان ألا تحصل الغيبة من مؤمن.
وفي الآية التحذير الشديد من الغيبة، وأنها من الكبائر؛ لأن الله شبهها بأكل لحم الميت، وذلك من الكبائر.
قال العلماء رحمهم الله تعالى: طريق المغتاب للناس في توبته أن يقلع عن ذلك، ويعزم على أن لا يعود، على ما فعل، وأن يتحلل من الذي أغتابه، أو يثني عليه في المجالس التي كان يذمه فيها، وأن يرد عنه الغيبة.