موسوعةالأخلاق الإسلامية-المسؤولية عن السلوك الأخلاقي(قطاعات الكسب الإرادي باعتبار موقع السلوك)

الوصف
المسؤولية عن السلوك الأخلاقي
قطاعات الكسب الإرادي باعتبار موقع السلوك
الباب الأول: مقدمات وأسس عامة >> الفصل الرابع >>
(ج) قطاعات الكسب الإرادي باعتبار موقع السلوك:
لا ينحصر الكسب الإرادي –الذي هو مناط الابتلاء والتكليف- بالكسب الجسدي؛ بل هو شامل للكسب الجسدي، والكسب النفسي، والكسب القلبي، والكسب الفكري، وكل أنواع الكسب هذه خاضعة للتكليف والمسؤولية، بشرط أن تكون خاضعة لسلطان الإرادة الحرة في الإنسان.
فكل ما يملكه الإنسان بإرادته من ذاته هو محل للابتلاء والتكليف والمسؤولية.
أمثلة:
(أ) فمن أمثلة الكسب الجسدي الإيجابي أو السلبي ما يلي:
بذل المعروف، وهو كسب جسدي إيجابي. الكف عن أكل أموال الناس بالباطل، وهو كسب جسدي سلبي. وهذا الكسبان من أمثلة فعل الخير.
العدوان على حياة الآخرين أو أجسامهم بالقتل أو الأذى، وهو كسب إيجابي جسدي. الامتناع عن تأدية الحقوق المادية لأربابها، وهو كسب سلبي جسدي. وهذان الكسبان من أمثلة فعل الشر.
(ب) على الرغم من وجود أمور نفسية كثيرة تخرج عن مدى استطاعتنا وما تملكه إرادتنا –فلا نعتبر مسؤولين عنها لأنها واردات غير خاضعة للإرادات- فإنها توجد حركات نفسية أخرى يملكها الإنسان بإرادته، أو يملك أسبابها ومقدماتها، ويشعر الإنسان معها بأنه يسيء إذا مارس منها ما هو إثم، ويحسن إذا مارس منها ما هو بر؛ لأنه يملك صرف ما هو منها إثم عن نفسه، باتخاذ الوسائل لذلك، ويملك اجتلاب ما هو منها بر إلى نفسه، باتخاذ الوسائل لذلك.
فمن تشهى في نفسه ما لا حق له به –وقد ورد هذا التشهي بسبب لم يجلبه بإرادته- فإنه قد يستطيع أن يعمل على صرف هذا التشهي عن نفسه، بتذكر ما يجب عليه، ومراقبة الله، والتبصر بالحق، وبذلك يكسب كسبًا نفسيًّا مبرورًا يثاب عليه عند الله. ومهما صرف عن نفسه هذا التشهي الذي لا حق له فيه كان له كسبًا نفسيًّا مبرورًا، أما إذا لم يعمل على صرفه وكان باستطاعته ذلك، بل ترك نفسه تنطلق في تشهي ما لا حق له فيه، ثم أخذ هذا التشهي ينمو في نفسه بسبب من إرادته، حتى صار بعض القبائح النفسية المقيمة لديه، فإنه من دون شك يعتبر كاسبًا في نفسه كسبًا إراديًّا آثمًا يؤاخذ عليه عند ربه. وقد يكون الإسهام في الكسب بصفة إيجابية، وقد يكون بصفة سلبية.
ومثل التشهيات الممنوعة أهواء النفوس الجانحة عن سبيل الخير.
وقد توجد تشهيات وأهواء نفسية خيرة، تخضع هي أو أسبابها لسلطان الإرادة، فيكون دعمها وتنميتها بإرادة الإنسان، واتخاذ الوسائل لذلك من الكسب المبرور الذي يثاب عليه.
ولذلك كان حب الإنسان للحق والفضيلة والخير، الذي ينمو في ظل دعم الإرادة وتربيتها، عملًا من الأعمال المبرورة التي لها حظ عظيم من الأجر عند الله، وظاهر أن هذا العمل من الكسب الذي تمارسه النفوس.
أما كراهية الإنسان للحق والخير والفضيلة النامية في ظل دعم الإرادة وتربيتها؛ فإنها عمل نفسي من الأعمال الآثمة التي لها نصيب كبير من المؤاخذة.
(ج) وفي تصوير الكسب القلبي قد لا نستطيع أن نحدد فروقًا واضحة بينه وبين الكسب النفسي، وقد تختلط علينا أمثلة هذا بأمثلة ذاك؛ لأننا لا نستطيع إدراك مواقع الحركات التي تجري داخل ذواتنا. لكننا نقول: إن من أمثلة ما تكسبه القلوب والنفوس من غير أن نميز ما لهذه مما لتلك: الكبر والعجب، والحسد، وشدة التعلق بالشهوات المحرمة، والافتتان بالأهواء الجانحة الضارة، والميل العنيف إلى الفجور، ومحبة الظلم والبغي والعدوان، وكل هذه الأمثلة من أمثلة الكسب القبيح الآثم. ومن أمثلة الكسب الحسن المبرور: التواضع، ومعرفة الإنسان حدود نفسه وربط مشاعره بذلك، والرضا بالقضاء والقدر ومجانبة الحسد، وتعلق النفس والقلب بالطاعات، وميلهما الشديد إلى خير الناس وإسعادهم ومرضاة الرب جل وعلا وكراهية الظلم والبغي والعدوان.
إلى غير ذلك من أمور نفسية وقلبية كثيرة، باستطاعة الإرادة أن تتحكم بها، أو بأسبابها الجالبة أو الصارفة.
(د) وفي تصوير الكسب الفكري قد يسهل علينا تمييزه عن الكسبين النفسي والقلبي.
إنها تمر في أذهاننا خواطر كثيرة، وهذه الخواطر لا تقع تحت سلطة إراداتنا، إلا أننا قد نملك بإراداتنا صرفها، عن طريق الاستعاذة بالله، وقد نملك بإراداتنا اجتلاب كثير منها بالتأمل والتفكر وحصر الهمة لذلك.
ومما نملكه بإراداتنا من أفكار ما هو خير، ومنها ما هو شر.
فمن أمثلة الكسب الفكري المبرور: إعمال الفكر في تدبر آيات الله وآلائه، والبحث عن دلائل وجوده وكمال صفاته في آثاره، وابتكار ما فيه خدمة الحق والخير والفضيلة، والتخطيط الفكري لنشر الخير وقمع الشر.
ومن أمثلة الكسب الفكري الآثم: إعمال الفكر في وسائل نشر الشر، وفي ابتكار ما فيه خطط الأذى والضر بخلق الله، وإعمال الفكر في تلفيق الأدلة المزورة لجعل الحق باطلًا والباطل حقًّا، خدمة لأهواء النفس وشهواتها، إلى غير ذلك من أمثلة كثيرة تدخل في أعمال الفكر الإرادية.
ومن هذه الأعمال ما هو إيجابي، ومنها ما هو سلبي؛ فمن الأعمال الفكرية السلبية: ترك ما يجب على الإنسان التفكير والتأمل فيه، وهذا كسب فكري سلبي يؤاخذ الإنسان عليه، ومنها أن يترك بإرادته ما ينبغي له أن يتركه من أفكار جهنمية شريرة، حتى لا تؤثر في نفسه، وهذا كسب فكري سلبي يثاب عليه.
فمن أطلق نفسه بإرادته في كسب نفسي أو قلبي أو فكري سيئ، فانطلقت في ذلك، حتى وصل إلى مرحلة لا يستطيع معها رد نفسه عن الشر، وصارت واردات الشر ترد على نفسه من غير إرادته، أو رغم إرادته؛ فالذي يظهر أن ما وصل إليه يعتبر من كسبه المسؤول عنه؛ لأن مقدماته الأولى قد كانت بسبب منه، فعليه إذن أن يتحمل تبعات النتائج.
فهو في هذا كمن بدأ بتعاطي المخدرات أو المسكرات، حتى تمكنت من جملته العصبية، وأمسى أسيرها، وغير قادر على التخلص منها.