موسوعةالأخلاق الإسلامية-المسؤولية عن السلوك الأخلاقي(الخطيئة والغفران)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-المسؤولية عن السلوك الأخلاقي(الخطيئة والغفران)
404 0

الوصف

                                                                         المسؤولية عن السلوك الأخلاقي

                                                                            الخطيئة والغفران
                                                             الباب الأول: مقدمات وأسس عامة >> الفصل الرابع >>

4- الخطيئة والغفران

فطر الله الإنسان، وجعل إرادته ذات سلطان، بين كفتي ميزان، هذه من ذات اليمين تميل به إلى ما يرضي الرحمن، وفعل الخير والإحسان، وهذه من ذات الشمال تنزع به إلى الفسوق والعصيان، واتباع خطوات الشيطان.

أما التي من ذات اليمين: فدوافع خيرة، تحب الحق وتهفو إليه، وتميل إلى فعل الخير وتشعر بالطمأنينة إليه. يضاف إلى ذلك عقلٌ مرشد إلى الصواب، يدرك الحق والباطل، والخير والشر، والفضيلة والرذيلة، ويضاف إليه أيضًا لمة ملك من ملائكة الرحمن، يأمره بالخير من داخل نفسه ويحثه عليه، وشريعة الله للناس، وما فيها من مواعظ ووصايا، ووعد ووعيد، ثم عظات التجارب الإنسانية العامة، والتجارب الشخصية، ومساعدات أخرى من الذين يدعون إلى الخير من الناس.

وأما التي من ذات الشمال: فنوازع فطرية إلى الاستقلال الذاتي وحب الخروج عن الطاعة والتبعية في بعض أموره، وأهواء تلح بالمطالب التي لا تتم تلبيتها إلا بالانحراف عن صراط الهداية، وبارتكاب السيئات والآثام، وشهوات قد لا تقنع بما هو ميسور على طريق الاستقامة، ونفس رعناء نزاعة إلى الشر وأمارة بالسوء. ويضاف إلى ذلك شيطان يوسوس من داخل النفس، يأمر بالفحشاء والمنكر، ويدلي بغرور إلى مواقع الخطيئة والإثم، ثم ضلالات شياطين الإنس القولية والعملية، المقرونة ببعض لذائذ الجسد، وأهواء الأنفس وشهواتها.

وخلق الإنسان ضعيفًا بين هذه التي من ذات اليمين، وهذه التي من ذات الشمال فهو عرضة للكبوات، والعثرات، والخطيئات.

كذلك هو واقع حال الإنسان المشهود، وواقع حاله الذي كشفت عنه نصوص القرآن المجيد والسنة المطهرة.

ولما كان الإنسان عرضة للكبوات –بسبب الضعف الإرادي الذي فطر عليه- تجاه مؤثرات الأهواء والشهوات ومختلف الدوافع النفسية، كان من الحكمة التربوية له أن تهيأ له فرص من فرص الطاعات والعبادات والاستغفارات المقرونة بالتوبة والندم والعزم على الاستقامة، حتى تكون له بمثابة تطهير، يغسله من قذارات الإثم التي علقت به، كما تغسل الثياب من أدرانها وما يعلق بها من أوساخ. ولولا فضل الله ورحمته بعباده ما زكا من الناس من أحد، إلا من عصمهم الله بعصمته، وهذا ما بينه الله بقوله تعالى في سورة (النور 24):

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)) .

أي: لولا فضل الله عليكم بالحفظ ورحمته لكم بالعفو والغفران ما صلح أحد منكم، ولا طهر أحد منكم من أدناس ذنوبه ومعاصيه؛ وذلك لأن الإنسان خطاء مذنب.

روى الترمذي وابن ماجه والإمام أحمد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.

                                             إسناده حسن وصححه الحاكم وابن القطان.

وروى مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى، مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى، والفرج يصدق ذلك ويكذبه.

وجاء في الحديث القدسي الصحيح:

يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا.

"ولكن الله يزكي من يشاء": فهو الذي يطهر بالعفو والغفران من يشاء من عباده، ومشيئته تعالى موافقة لحكمته، فمن سمع منه توبته، وعلم إخلاصه وصدقه فيها ورغبته بإصلاح حاله، غفر له وعفا عنه، فكان زكيًّا طاهرًا نقي الصفحة، كأنه لم يكن من المذنبين (والله سميع عليم) .

وفي هذا يتبين لنا جانب من جوانب الواقعية في الإسلام: فكما أن الإسلام واقعي في أحكامه وتعاليمه، وفي تربيته للناس، وفي دعوتهم إلى الحق، وفي محاسبتهم على أعمالهم، هو واقعي أيضًا في تقدير ظروف الإنسان، وملاحظة واقع حال الضعف البشري الذي قد ينزلق به إلى الوقوع في الخطيئة وارتكاب المعصية والإثم، ففتح له أبواب التوبة والاستغفار، وأطمعه بالعفو والغفران ليقيل عثرته.

إن واقع حال الضعف البشري هذا يستدعي واقعية تربوية، وواقعية جزائية، وواقعية إصلاحية، لذلك فتح الرحمن للإنسان باب الغفران، وهيأ له بذلك أهون الوسائل وأكرمها، كيما يتخلص من الإثم، ويلقي عن كاهله أثقال الأوزار، ويقوّم ما اعوج منه، ويرد نفسه إلى صراط الحق، ويتابع مسيرته في الحياة مهديًّا، سالكًا سواء السبيل، حتى يظفر بالنجاح حينما تنتهي فترة ابتلائه في هذه الحياة الدنيا.

وتختلف عند الناس نسبة ضعف الإرادة الواقعة بين قوى متباينة، تتجاذبها من ذات اليمين ومن ذات الشمال، وهذه الإرادة التي تمثل الحكم صاحب السلطان بين القوى المتباينة، لا بد أن تضعف في بعض أحوالها، فتجرب الاستجابة لبعض القوى التي تجذبها من ذات الشمال، وعندئذٍ يجد الإنسان نفسه ساقطًا في الخطيئة.

وتختلف هذه الاستجابة عند الناس شدة وضعفًا، وكثرة وقلة: فمنهم السابقون في الخيرات، وهم الذين تقوى إراداتهم، فتكثر صالحاتهم، وتندر فلتات مخالفاتهم وسيئاتهم. ومنهم المتأرجحون بين الاستقامة والانحراف، وهم الذين يخلطون عملًا صالحًا وآخر سيئًا. ومنهم الظالمون لأنفسهم، وهم الذين ضعفت إراداتهم ضعفًا فاحشًا، فانغمسوا في الموبقات الكثيرات، وزادوا في الانحراف عن الصراط السوي، بما يكتسبون من خطايا.

وتبيانًا لهذا الواقع الإنساني المفطور على الضعف، يقول الله تعالى في سورة (النساء 4):

(وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)) .

وقد جاء التخفيف في مقابل الضعف الإنساني بفتح باب العفو والغفران، واستئناف فرص التجربة والامتحان، ما دام أمام الإنسان فسحة من أجله في ظروف هذه الحياة الدنيا.

وفي قصة الخطيئة الأولى في حياة الإنسان، وذكر الله لها في القرآن إشعار بالواقع الإنساني، وبالواقعية الدينية المشمولة برحمة الله وبحكمته.

لقد أثبت الله لنا في هذه القصة أولى المخالفات لأول إنسانين خلقهما، لقد نهاهما عن أن يأكلا من شجرة معينة، بعد أن أباح لهما أن يأكلا من كل ما في الجنة سواها، فأكلا منها، وعصيا ربهما، متأثرين في ضعفهما البشري بوساوس الشيطان، وكذبه عليهما، إذ قاسمهما بأنه ناصح لهما غير غاش. فأخرجهما الله من الجنة، وأهبطهما إلى الأرض، وبين لذريتهما أن الدوافع إلى المعصية منتقلة إليهم بالوراثة، وأن عداوة الشيطان لهم تلاحقهم بالوساوس والإغواء، لتحجب عنهم الجنة التي تدعوهم إلى نفسها من طريق طاعة الله، وذلك بحسب وعد الله ( إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) .

ولكن الله تدارك الإنسان بحكمته ورحمته، فأعلن أن من أخرجته الخطيئة عن طريق الجنة أعادته إليه أسباب التوبة الصادقة المخلصة، المقرونة بالندم والاستغفار، وشمله الله بغفرانه وعفوه.

وينادي الله عباده كما جاء في الحديث القدسي الصحيح الذي أخرجه مسلم:

يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا.

وروى مسلم عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقومٍ يذنبون فيستغفرون الله تعالى فيغفر لهم.

ويتجلى الله على عباده التائبين المستغفرين المعترفين بذنوبهم، والمعتذرين بضعفهم البشري بأسمائه: العفو الغفور الرحمن الرحيم؛ فيغفر لهم، ويعفو عنهم، ويحسن إليهم، إذا علم صدق عبوديتهم وصدق توبتهم.

ولا يريد سبحانه من عباده المذنبين أن يقنطوا من رحمته وعفوه، مهما تعاظمت ذنوبهم، وكثرت خطاياهم، يقول الله تعالى في سورة (الزمر 39):

(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)) .

ففي هذا النص نداء من الله للمذنبين أن لا يقنطوا من رحمته، مهما تعاظمت ذنوبهم في جنب الله، فالله يغفر الذنوب جميعًا، وما على الذين أسرفوا على أنفسهم إلا أن يستغفروا ربهم، ويتوبوا إليه توبة نصوحًا، ويمدوا أيديهم إلى رحمته.

وفي بيان صفات المؤمنين المتقين يقول الله تعالى في سورة (آل عمران 3):

(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)).

فيبين الله في هذه الآية أن من صفات المتقين أنهم إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم –بما ارتكبوا من آثام في جنب الله- ذكروا الله فتجلت لهم صفات عدله وصفات رحمته، فوجدوا أنفسهم بين الخوف والرجاء، هذا يحذرهم من عقاب الله، وهذا يطمعهم بعفو الله، وعندئذٍ يجدون السبب الذي يقيلهم من عثرتهم، وهو ذو شعبتين:

الشعبة الأولى:
صدق الاستغفار مع اللجوء إلى الله في طلب العفو والغفران.

الشعبة الثانية:
عدم الإصرار على فعل الذنب، وعدم المكابرة في استحسانه. فإذا ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم، ولم يصروا على ما فعلوا، وجدوا الله توابًا رحيمًا، فزكاهم بعفوه وغفرانه.

ويؤكد الله لعباده ذلك بقوله تعالى في سورة (النساء 4):

(وَمَن يَعْمَلْ سُوءً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَّحِيمًا (110)) .

فتبين هذه الآية حقيقة من حقائق الفضل الإلهي، وهي أن الله غفور رحيم، ويظفر بآثار غفران الله ورحمته من يستغفر الله من سوء عمله، أو من ظلمٍ ظلم به نفسه بمعصية ربه.