موسوعةالأخلاق الإسلامية-وسائل اكتساب الأخلاق(6- وسائل اكتساب الأخلاق)

الوصف
وسائل اكتساب الأخلاق
6- وسائل اكتساب الأخلاق
الباب الأول: مقدمات وأسس عامة >> الفصل الخامس: اكتساب الأخلاق ووسائله >>
6- وسائل اكتساب الأخلاق
لم يدع الإسلام وسيلة تربوية نافعة لا شر فيها إلا استخدمها في مختلف المجالات التربوية، ومنها التربية الأخلاقية، وذلك لأن الناس أصناف، وكل صنف منهم قد تلائمه وسيلة من الوسائل وتتناسب مع خصائصه النفسية والفكرية، في حين أنه قد لا تجدي معه وسيلة أخرى، وحركة الإسلام الإصلاحية لا بد أن تأخذ بكل الوسائل لتلائم كل الناس.
ولدى البحث عن الوسائل التي اتخذها الإسلام أو وجه إليها في منهجه التربوي لاكتساب الأخلاق الإسلامية، ولإلزام الأفراد والجماعات بالمنهج الأخلاقي الذي رسمه للناس، تنكشف لنا مجموعة من الوسائل، منها الوسائل التالية:
الوسيلة الأولى:
التدريب العملي والرياضة النفسية.
الوسيلة الثانية:
الغمس في البيئات الصالحة.
الوسيلة الثالثة:
القدوة الحسنة.
الوسيلة الرابعة:
الضغط الاجتماعي من قبل المجتمع المسلم.
الوسيلة الخامسة:
سلطان الدولة الإسلامية، بروادعها، وعقوباتها، ومرغباتها، ومكافآتها.
وفيما يلي شرح لهذه الوسائل:
أولًا- التدريب العملي والرياضة النفسية:
إن التدريب العملي والممارسة التطبيقية ولو مع التكلف في أول الأمر، وقسر النفس على غير ما تهوى، من الأمور التي تكسب النفس الإنسانية العادة السلوكية، طال الزمن أو قصر.
والعادة لها تغلغل في النفس يجعلها أمرًا محببًا، وحين تتمكن في النفس تكون بمثابة الخلق الفطري، وحين تصل العادة إلى هذه المرحلة تكون خلقًا مكتسبًا، ولو لم تكن في الأصل الفطري أمرًا موجودًا.
وقد عرفنا أن في النفس الإنسانية استعدادًا فطريًّا لاكتساب مقدارٍ ما من كل فضيلة خلقية، وبمقدار ما لدى الإنسان من هذا الاستعداد تكون مسؤوليته، ولو لم يكن لدى النفوس الإنسانية هذا الاستعداد لكان من العبث اتخاذ أية محاولة لتقويم أخلاق الناس. والقواعد التربوية المستمدة من الواقع التجريبي تثبت وجود هذا الاستعداد، واعتمادًا عليه يعمل المربون على تهذيب أخلاق الأجيال التي يشرفون على تربيتها، وقد ورد في الأثر: "العلم بالتعلم والحلم بالتحلم".
وثبت في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:
ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله.
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن أناسًا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم حتى نفد ما عنده، فقال لهم حين أنفق كل شيء بيده:
ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر.
وضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلًا دل فيه على أن التدريب العملي ولو مع التكلف يكسب العادة الخلقية، حتى يصير الإنسان معطاء غير بخيل ولو لم يكن كذلك أول الأمر.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما.
فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت أو وفرت على جلده، حتى تخفي بنانه، وتعفو أثره.
وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئًا إلا لزقت كل حلقةٍ مكانها، فهو يوسعها فلا تتسع.
جنتان من حديد: أي درعان.
تراقيهما: التراقي جمع ترقوة، والترقوتان هما العظمان المشرفان بين ثغرة النحر والعاتق. تكون للناس وغيرهم.
فدل هذا الحديث على أن المنفق والبخيل كانا في أول الأمر متساويين في مقدار الدرعين.
أما المنفق فقد ربت درعه بالإنفاق حتى غطت جسمه كله، بخلاف البخيل الذي لم يدرب نفسه على الإنفاق، فإن نفسه تكز، والله يضيق عليه من وراء ذلك، فيكون البخل خلقًا متمكنًا من نفسه مسيطرًا عليها.
ومن ذلك نفهم أمرين: فطرية الخلق، وقابليته للتعديل بالممارسة والتدريب العملي. إن المنفق كان أول الأمر كالبخيل يشبهان لابسي درعين من حديد متساويين ويبدو أن الدرع مثال لما يضغط على الصدر عند إرادة النفقة، فمن يتدرب على البذل تنفتح نفسه كما يتسع الدرع فلا يكون له ضغط، وأما من يعتاد الإمساك فيشتد ضاغط البخل على صدره، فهو يحس بالضيق الشديد كلما أراد البذل، ومع مرور الزمن يتصلب هذا الضاغط.
واعتمادًا على وجود الاستعداد الفطري لاكتساب الخلق، وردت الأوامر الدينية بفضائل الأخلاق، ووردت النواهي الدينية عن رذائل الأخلاق.
ولكن من الملاحظ أنه قد يبدأ التخلق بخلق ما عملًا شاقًّا على النفس، إذا لم يكن في أصل طبيعتها الفطرية، ولكنه بتدريب النفس عليه، وبالتمرس والمران، يصبح سجية ثابتة، يندفع الإنسان إلى ممارسة ظواهرها اندفاعًا ذاتيًّا، دون أن يجد أية مشقة أو معارضة أو عقبة من داخل نفسه، ولئن وجد شيئًا من ذلك فإن دافع الخلق المكتسب يظل هو الدافع الأغلب، بشرط أن يكون التخلق قد تحول فعلًا إلى خلق مكتسب.
وليس التدريب النفسي ببعيد الشبه عن التدريب الجسدي، الذي تكتسب به المهارات العملية الجسدية.
ولنأخذ مثالًا على ذلك فضيلة الصبر: فإن من المستطاع اكتساب هذه الفضيلة وتنميتها عن طريق التدريب الذي يتعرض له الإنسان في حياته، وذلك بأن تمر في حياته أمور متعددة تتطلب منه صبرًا وسعة صدر، فقد يضجر الإنسان في الأول منها، ولكنه في الثاني يكون ضجره أخف، ثم تتنازل نسبة الضجر عنده، وتتصاعد نسبة الصبر، حتى يغدو من الصابرين، ومن أصحاب فضيلة خلق الصبر.
وكذلك كثير من الفضائل الخلقية يمكن أن تكتسب بالتدريب العملي المتكرر.
ولذلك اعتمد الإسلام على وسيلة التدريب العملي، ليكتسب بها المسلمون جملة من الفضائل الأخلاقية التي أمرهم بها أمر إلزام أو ترغيب، وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كلها قائمة على التدريب العملي والممارسة التطبيقية. والعبادات الدورية، والزكاة، والنفقات الواجبة، والجهاد في سبيل الله من أمثلة التدريب العملي.
والتدريب العملي الجسدي أو النفسي قد يصاحبه أول الأمر تكلف ثقيل على النفس، ولكنه قد يغدو بعد حين عادة أخلاقية محببة، إذا تركها صاحبها شعر بفراغ نفسي موحش، لا يملأه إلا ممارستها، وهكذا شأن العادات، فالعادة طبيعة ثانية.
ثانيًا- الغمس في البيئات الصالحة:
ومن وسائل اكتساب الأخلاق الفاضلة الغمس في البيئات الصالحة، وذلك لأن من طبيعة الإنسان أن يكتسب من البيئة التي ينغمس فيها ويتعايش معها، ما لديها من أخلاق وعادات وتقاليد وأنواع سلوك، عن طريق السراية والمحاكاة والتقليد، وبذلك تتم العدوى النافعة أو الضارة، وفي الحكم السائرة: إن الطبع للطبع يسرق.
فالانغماس في الجماعة، من شأنه أن ينقل من الجماعة إلى الفرد ما تتسم به الجماعة من أخلاق، عن طريق السراية والعدوى، التي تبدأ بالمحاكاة والتقليد والرغبة بالاندماج والموافقة وعدم المخالفة والشذوذ.
وحينما ينخرط الفرد في سلك جماعة من الجماعات يجد أنه مدفوع بقوة ضاغطة لالتزام طريقتها، ثم بتعاطفه معها يستحسن الأشياء التي يراها مستحسنة لديها وآخذة بها، ويستقبح الأشياء التي يراها مستقبحة لديها ونافرة منها، وبذلك يكتسب الفرد من دون أن يشعر أخلاق الجماعة التي ينتسب إليها، وينخرط فيها.
يضاف إلى ذلك أن الدافع الجماعي الموجود في الفرد الإنساني، يجعله إذا نخرط في سلك بيئة جماعية ضمن آلة متحركة تقسره قسرًا ذاتيًّا على أن يستحسن ما تستحسنه، ويستقبح ما تستقبحه، وعلى أن يتقبل التدريبات العملية التي تمارسها الجماعة، وبذلك يكتسب الفرد طائفة كبيرة من الأخلاق التي تتخلق بها الجماعة. ويضاف إلى ذلك عامل التكرار بمرور الزمن، الذي تغدو به المكررات عادات متمكنة في الفرد، وذات جذور عميقة في قرارة نفسه.
فإذا وضعنا جبانًا في بيئة شجعان، استطاع أن يكتسب منهم قسطًا حسنًا من الشجاعة، وبذلك تخف نسبة الجبن لديه.
وإذا وضعنا بخيلًا بين كرماء مدة طويلة من الزمن، فإنه لا بد أن يتأثر بهم، فتخف عنده نسبة البخل الفطرية لديه.
وإذا وضعنا إنسانًا في بيئة أمناء، اكتسب منهم خلق الأمانة، أو في بيئة صادقين، اكتسب منهم خلق الصدق، أو في بيئة عفة وشرف اكتسب ذلك منها.
وهكذا فالإنسان الذي يجد نفسه في بيئة لهجتها الصدق، وخلقها الأمانة، وسلوكها الوفاء بالعهد والصدق في الوعد، يصعب عليه جدًّا أن يخرج على هذا الأسلوب من السلوك في الحياة، وإن كانت نفسه نزاعة بالأصل إلى غير ذلك. ثم إذا طال عليه العهد وهو ملتزم بما تمليه عليه البيئة، وجد هذه الصفات الكريمة ذات جذور متغلغلة في نفسه، وصار يحس بنفرة شديدة من أضدادها، فلو حلا لنفسه أن يكذب لم يطاوعه خلقه المكتسب على ذلك، ولو بدا له أن يخون تلجلج واضطرب، وفر من نزعات نفسه وشيطانه، وابتعد عن طريق الخيانة. ولو اتجه هواه إلى نقض العهد وعدم الوفاء بالوعد لألجمته عن ذلك أخلاقه المكتسبة. وهكذا في كل ما يكتسبه الفرد بالتخلق، عن طريق البيئة الصالحة التي تلفه في دوامتها.
هذا بخلاف البيئات المنحرفة فإنها تؤدي هذا الدور نفسه، ولكن في اتجاه معاكس تمامًا، إذ تعمل على تدريب من ينخرط فيها على كل رذيلة من الرذائل التي هي مدنسة بها، وعلى كل قبيحة من القبائح المنتشرة بين أفرادها، كما تكون بؤرة ملائمة لتزايد الرذائل والقبائح، حتى تفسد المفاهيم العامة، فتمسي مآثر الأفراد فيها ما أصابوه من جرائم وسيئات وانحرافات في السلوك.
ويستغل المفسدون في الأرض هذه الوسيلة لإفساد أخلاق الناس، وإخراجهم عن طريق الحق والخير والفضيلة، الذي هو طريق الإسلام.
لذلك كان من واجبات التربية النافعة التوجيه أو الإلزام بمصاحبة الأخيار والبعد عن مصاحبة الأشرار.
ويمكن تلخيص التأثير الجماعي على الفرد بالعناصر التالية:
1- السراية التي تفعل فعلها العميق في كيان الإنسان، وهي من خصائص الاجتماع، وكلما كبر المجتمع كان تأثيره على الفرد الذي ينخرط فيه أكثر.