موسوعةالأخلاق الإسلامية-سماحة النفس ( 5- من وسائل اكتساب خلق سماحة النفس)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-سماحة النفس ( 5- من وسائل اكتساب خلق سماحة النفس)
437 0

الوصف

                                                     سماحة النفس

                                           5- من وسائل اكتساب خلق سماحة النفس
              الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الثامن: سماحة النفس >>

5- من وسائل اكتساب خلق سماحة النفس

لقد تبين لنا في بحث اكتساب الأخلاق من الباب الأول من الكتاب، أن الأخلاق يمكن اكتساب مقادير منها، تتناسب مع أصل الاستعداد الفطري لاكتسابها، وأن النسبة تتفاوت بين الناس بحسب نماذجهم الطبعية، بيد أن كل نموذج قابل لاكتساب مقدارٍ ما من كل خلق.

وبناء على هذا نبحث هنا في بعض الوسائل التي يحسن التركيز عليها، من الوسائل التي تنفع في اكتساب خلق سماحة النفس، وفي التحلي بالظواهر السلوكية لهذا الخلق.

والذي أرى لفت النظر إليه في هذا المجال ثلاث وسائل.

الوسيلة الأولى:
التأمل في الترغيبات التي رغب الله بها الذين يتحلون بخلق السماحة، والفوائد التي يجنونها في العاجلة والآجلة، والسعادة التي يظفرون بها في الحياة الدنيا والآخرة.

الوسيلة الثانية:
التأمل في المحاذير التي حذر الله منها النكدين المتشددين العسيرين، وما يجلبه لهم خلقهم وظواهره السلوكية من مضار عاجلة وآجلة، ومتاعب وآلامٍ كثيرة، وخسارةٍ مادية ومعنوية.

الوسيلة الثالثة:
وهي من أنجع الوسائل وأكثرها عمقًا في النفس، وتأثيرًا في جذور التكوين الخلقي، ألا وهي وسيلة الاقتناع الإيماني بسلطان القضاء والقدر، وأنه هو المهيمن على كل الأحداث التي تخرج عن حدود الإرادة الإنسانية المسؤولة عن الأعمال الصادرة عنها.

فمتى علم الإنسان أن المقادير أمور مرسومة، وأنه لا راد لقضاء الله، وأن الله لا يقضي شيئًا إلا لحكمة هو يعلمها، ولا يأذن بنفاذ شيءٍ في كونه ولو من أهل الاختيار إلا لحكمة هو يعلمها، اطمأن قلبه، وثبت فؤاده، وهدأ قلقه، وأراح نفسه من طلب تغيير المقادير النافذة، وداوى هواه الذي خالفته المقادير أو ما أذنت بنفاذه المقادير بقول الله تعالى في سورة (البقرة 2):

(وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (216))

وبقول الله تعالى في سورة (النساء 4):

(فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19))

وحينما يعامل الناس ويناله منهم أذى فإنه يعلم أن ما ناله منهم له وجهان:

الوجه الأول:
أنه ظلم من العباد لا يرضى الله به؛ لأنه جاء على خلاف ما أمر الله به أو نهى عنه، فالمؤمن لا يرضاه منهم؛ لأن الله أبان أنه لا يرضاه منهم.

الوجه الثاني:
أن الله أذن بنفاذه لحكمةٍ هو يعلمها، ولو شاء لمنع نفاذه، فهو بهذا المعنى من قضاء الله وقدره، وقد رضيه الله بحكمته، فهو يرضى بقضاء الله الحكيم، ويرى أن الخير فيما رضيه الله له، لذلك فهو يتقبله بانبساط وسماحة نفسٍ وتسليم كامل، ولا يوجه أي اعتراضٍ وتذمر على الله فيما قضاه.

ومن يرضى بمقادير الله يسعد قلبه برضاه، أما من يتسخط على المقادير فإنه يشقي قلبه ونفسه بتسخطه، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فعليه السخط.

ومن أجل الإقناع بهذه الحقيقة من حقائق القضاء والقدر، لملء قلوب المؤمنين بالسعادة، ومنحهم خلق السماحة، وإبعادهم عن كل كآبة، تكاثرت نصوص القرآن والسنة، لتبيان هذه الحقيقة، التي تمثل أساسًا عظيمًا من أسس الإيمان.

(أ) فمنها قول الله تعالى في سورة (الحديد 57):

(مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23))

ففي هذه الآية يبين الله لعباده حقيقة من حقائق القضاء والقدر والعلم الرباني السابق للأحداث، وهذه الحقيقة تتلخص بأن جميع المصائب وجميع النعم التي ينالها الناس في الحياة، سواءٌ نزلت في الأرض أو نزلت في الأنفس هي مكتوبة في كتاب علم الله وقضائه من قبل أن يبرأ الله الأنفس، أي من قبل أن يخلقها، فهي لا بد حاصلة لا يمكن ردها ولا دفعها، وهذا الأمر في ضمن تراتيب القضاء والقدر أمرٌ يسيرٌ على الله وليس بعسير.

وقد أعلمنا الله بهذه الحقيقة من حقائق القضاء والقدر، لنتقبل مقادير الله بسماحة نفس، راضين عن الله مستسلمين إليه، عالمين بأن لله حكمًا عظيمة في كل مقاديره، ولنتقبل مصائب المقادير الربانية بالصبر، ونتقبل نعم المقادير الربانية بالشكر، مبتعدين عن الفرح المبطر الذي يولد في النفوس رذيلتي الاختيال والفخر، وذلك بالتكبر على خلق الله، وبالطغيان الذي يولده الشعور بالاستغناء.

وفي صدر الآية الأولى حذف دل عليه ما جاء في الآية الثانية، وتقدير الكلام: ما أصاب من مصيبة ولا نزل من نعمة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم.

الأسى: هو الحزن، يقال لغة: أسِىَ يأسَى أسَىً، إذا حزن، فهو أسيان، ويقال: أسوان، أي: حزين.

والفرح المذموم: هو البطر المخرج عن حد الاعتدال، والذي يتولد عنه الفخر على الناس والاختيال عليهم.

(ب) ومن النصوص أيضًا قول الله تعالى في سورة (التغابن 64):

(مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَن يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11))

فهذا النص يدل على أنه ما من مصيبة تنزل إلا بإذنٍ من الله تعالى، فإما أن تكون بمحض قضاء الله وقدره، فلا تنزل إلا بإذن، وإما أن تكون أثرًا لأسباب باشرها بعض خلق الله، وحين تكون النتائج مقضية بقضاء الله فإن الله تعالى يأذن للأسباب بأن تتحقق منها هذه النتائج، ولو شاء سبحانه لمنع الأسباب عن التأثير، أو لصرفها، أو لأوجد أي عائق يعوقها عن التأثير، فما يفعل أحد من خلق الله أمرًا تنتج عنه مصيبة من المصائب إلا وإذن الله بوقوع المصيبة مرافق له، وربما يكون من فعل الفعل مسؤولًا عند الله تعالى عنه؛ لأنه عصى أوامر الله أو نواهيه، ومع ذلك فإن النتائج لم يكن لها أن تحصل لو لم يأذن الله بوقوعها.

ومع أن العالم قائم على نظام السببية وتأثيرها في مسبباتها، فإن أي تأثير لسبب لا بد أن يقترن بإذن الله تعالى، ولو لم يأذن الله لم تؤثر الأسباب بمسبباتها، ومتى رفع الله إذنه عن سبب من الأسباب ارتفع تأثيره، كما أن السبب إذا لم يكن عين اختيار المخلوق المكلف هو من قضاء الله وقدره.

وبهذا المعنى الدقيق نرد على الاتكاليين الذين يعتمدون على المقادير فيعطلون اتخاذ الأسباب، ويهملون شؤون الحياة، مع أنهم مأمورون بأمر الله الجازم باتخاذ الأسباب.

وقد روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه بإسناد حسن صحيح، عن ابن خزامة عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله أرأيت رقىً نسترقيها، ودواءً نتداوى به، وتقاه نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئًا؟ قال:

هي من قدر الله.

ويمكن أن نمثل بمثال مادي مشاهد لاقتران الإذن الرباني بالأسباب، ولله المثل الأعلى، وهو إضاءتنا المصابيح الكهربائية في بيوتنا، إننا لا نستطيع إضاءتها إلا بإذن القائمين على مؤسسة الكهرباء، فلو فرضنا أن مراقب الإمداد بالطاقة الكهربائية كان مطلعًا على كل حركة نتحركها في بيوتنا، وأن باستطاعته أن يقطع عنا التيار متى شاء قطعًا كليًّا أو جزئيًّا، لكان كل ما نعمله في بيوتنا باستخدام الطاقة الكهربائية بإذنه، وإن لم يكن على ما يحب ويرضى، وذلك لأنه هو الممد بالطاقة وعلى علم بما يجري من أحداث، ومتى شاء فصل الطاقة، فاستمرار الإمداد بفعله، واستخدامنا لها بإذنه.

(ج) ومن النصوص أيضًا قول الله تعالى في سورة (البقرة 2):

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157))

وقد أشار هذا النص إلى أن من سنن الله في خلقه أن يبتليهم بالمصائب، ليختبر ردود أفعالهم تجاهها، فهل يتقبلونها بالصبر والرضى والتسليم، إيمانًا بالله وبما تشتمل عليه مقاديره من حكم، أم يستقبلونها بالضجر والتذمر والنكد والتسخط على الله.

فإن كانوا من الفريق الأول قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون، وهؤلاء هم أصحاب المنزلة العظيمة عند الله، عليهم صلوات من الله، أي رحمات، ورحمة من نوع خاص فوق الصلوات. وهؤلاء هم المهتدون.

وقد جعل الله جملة: (إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) ذكر الذاكر بعد نزول المصائب؛ لأن المصائب لا تعدو أنها سلبٌ للنعم التي سبق أن أنعم الله بها، أو حرمان من النعم التي أنعم الله بمثلها على عباده، والنعم لدى التحقيق هي ملك لله تعالى، والناس وسائر عباد الله الذين ينعم عليهم بالنعم هم أيضًا ملك لله تعالى، ومصير العباد كلهم أن يرجعوا إلى مالكهم، ومصير الأشياء كلها أن تعود إلى مالكها، فإذا ابتلى الله المؤمن فاسترد منه نعمة كان قد وضعها بين يديه ليبتليه بها، فإن المؤمن يتذكر بسرعة أن الله هو مالك كل شيء، ويتذكر أيضًا أنه هو نفسه مملوك لله، وأن جميع الخلائق مملوكون لله وأنهم عباده، وأنهم جميعًا راجعون إليه، فإذا رجع الملك إلى مالكه فعلام الحزن؟ وعلام الأسى؟ ولم الاعتراض؟ ولماذا التسخط؟

فحينما يتذكر المؤمن هذه الحقائق يعلن عبارة الإيمان التي تدل عليها فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.

هذه العقيدة الإيمانية رحمة من الله تملأ القلوب طمأنينة وتسليمًا، ورضىً عن الله فيما جرت به مقاديره.

وهكذا حال واقع الفريق الأول.

وأما الفريق الثاني: فإذا أصابتهم مصيبة تضجروا وتسخطوا على الله، وأضافوا إلى مصيبتهم التي امتحنوا بها مصيبة أكبر من داخل نفوسهم، وهم فوق ذلك يحرمون أنفسهم من رحمة الله،