موسوعةالأخلاق الإسلامية-علو الهمة (4- الاندفاع إلى الجهاد في سبيل الله بشجاعة ونشاط)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-علو الهمة (4- الاندفاع إلى الجهاد في سبيل الله بشجاعة ونشاط)
309 0

الوصف

                                                     علو الهمة

                                4- الاندفاع إلى الجهاد في سبيل الله بشجاعة ونشاط
               الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل التاسع: علو الهمة >>

4- الاندفاع إلى الجهاد في سبيل الله بشجاعة ونشاط

ومن ظواهر خلق علو الهمة في السلوك الاندفاع إلى الجهاد في سبيل الله، وخوض المعارك القتالية بنشاط وشجاعة وإقدام، كأن ساحات القتال ساحات مغانم.

وكذلك كان المؤمنون الصادقون، الذين تعلموا وتدربوا على يد الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى أيدي النخبة الممتازين من أصحابه.

فالرسول صلوات الله عليه قد كان لهم الأسوة الحسنة، والقدوة الرائعة، في علو الهمة والشجاعة والإقدام، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا حمي الوطيس في الحرب كان أكثر الناس شجاعة، وأعظمهم إقدامًا، وأعلاهم همة، وقد قاد صلوات الله عليه بنفسه خلال عشر سنين سبعًا وعشرين غزاة، وكان يتمنى أن يقود بنفسه كل البعوث التي بعثها والسرايا التي سيرها، ولكن أقعده عن ذلك أنه كان لا يجد ما يزود به جميع أصحابه للخروج معه في كل بعث، وكان أكثرهم لا تطيب نفسه أن يقعد ورسول الله قد خرج إلى الجهاد.

روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

والذي نفسي بيده، لولا أن رجالًا من المسلمين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيى، ثم أقتل ثم أحيى، ثم أقتل ثم أحيى، ثم أقتل.

فأية همةٍ عليةٍ أعلى من هذه الهمة النبوية.

أما دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم القولية إلى علو الهمة في هذا المجال، فمن أمثلته ما يلي:

روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

من خير معاش الناس لهم رجلٌ ممسكٌ عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه يبتغي القتل أو الموت مظانه.

كلما سمع هيعة: أي صيحة يفزع منها.

أو فزعةً: أي نداءً من مستغيث.

فمن خير معاش الناس لهم معاش رجل ممسك بعنان فرسه مرابطٍ في سبيل الله، كلما سمع صيحة تدعو إلى القتال في سبيل الله، أو نداء استغاثة من المسلمين لصد عدوهم طار على متن فرسه، غير متباطئ ولا متكاسل، ولا خائفٍ، ولا متردد، وذلك من علو همته؛ لأن الإسلام قد علمه ذلك، ولأن حرارة الإيمان تدفعه إليه.

وكان من أثر تربية الرسول صلى الله عليه وسلم القولية والعملية لأصحابه، أن ظهرت منهم بطولات عجيبة ونادرة، تدل على علو همتهم وسمو غاياتهم، وتضحيتهم بأنفسهم وكل ما في الحياة الدنيا، ابتغاء مرضاة الله وثواب الآخرة.

(أ) فمن ذلك قصة أنس بن النضر عم أنس بن مالك رضي الله عنهما في غزوة أحد.

روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك قال: غاب عمي أنس بن النضر رضي الله عنه عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله، غبت عن أول قتالٍ قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع.  أي: ليظهرن الله للناس ما أصنع من جهاد وفداء.   فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون، فقال: اللهم أعتذر إليك مما صنع هؤلاء (يعني أصحابه)، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء (يعني المشركين). ثم تقدم، فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ، الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أحد.

فقال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع.

قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل ومثل به المشركون، فما عرفه أحدٌ إلا أخته ببنانه.

قال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)  الأحزاب: 23.  

فمنهم من قضى نحبه: النحب في اللغة النذر، والمعنى: فمنهم من قضى نذره الذي نذره بأن يصدق الله في قتال أعداء الله، حتى بلغ آخره ونال الشهادة.

وأنس بن النضر كان قد نذر أن يقاتل بصدق حتى يقتل، وقد فعل، فقضى نحبه، أي النذر الذي نذره.

(ب) ومن ذلك أيضًا بطولة حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد صدق في القتال بهمة عالية، وأبلى بلاءً حسنًا، حتى رماه وحشيٌ بحربته فقتله، وقد وصفه وحشيٌ بقوله:

"رأيته (أي: يوم أحد) في عرض الناس مثل الجمل الأورق يهد الناس بسيفه هدًا، ما يقوم له شيء".

الأورق: من الإبل، هو الذي في لونه بياض إلى سواد.

(ج) ومن ذلك بطولة أبي دجانة سماك بن خرشة في أحد، فقد كان ذا بأسٍ شديدٍ وهمة عالية، ومن علو همته رضي الله عنه، ما حدث به عن نفسه، قال: رأيت إنسانًا يخمش الناس خمشًا شديدًا، فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولول، فإذا هو امرأة. قال: فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأةً.

وهذه المرأة -كما قال الزبير بن العوام- هي هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، إذ كانت يومئذٍ من أشد المحرضات على قتال المسلمين. وقد أسلمت بعد فتح مكة، كما أسلم زوجها أبو سفيان صبيحة يوم الفتح.

وعفة أبي دجانة عن قتل هند بنت عتبة إكرامًا لسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يقتل به امرأة من علو همته، فعلو الهمة يكون بشدة البأس حينًا، ويكون بالترفع والكف والتعفف حينًا آخر، وربما يكون الترفع مع القدرة أدل على علو الهمة من دلالة شدة البأس.

وكان لأبي دجانة مشهدٌ آخر في أحد يدل على علو همته، إذ ترس بنفسه دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقع النبل في ظهره وهو منحنٍ عليه، حتى كثرت فيه النبل.

(د) ومن ذلك أيضًا ما كان من أم عمارة نسيبة بنت كعبٍ المازنية في غزوة أحد، رضي الله عنها.

تقول أم سعدٍ بنت سعد بن الربيع: دخلت على أمّ عمارة فقلت لها: يا خالة، أخبريني خبرك، فقالت: خرجت أول النهار، وأنا أنظر ما يصنع الناس، ومعي سقاء ٌفيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه، والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقمت أباشر القتال، وأذب عنه بالسيف، وأرمي عن القوس، حتى خلصت الجراح إليّ.

قالت أم سعد: فرأيت على عاتقها جرحًا أجوف له غور، فقلت: من أصابك بهذا؟ قال: ابن قمئة أقمأه الله (أي: أذله). لما ولى المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يقول: دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا، فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضربني هذه الضربة، ولكن فلقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو الله كان عليه درعان.