موسوعةالأخلاق الإسلامية-علو الهمة (الزهد في الدنيا)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-علو الهمة (الزهد في الدنيا)
407 0

الوصف

                                                     علو الهمة

                                                   الزهد في الدنيا
            الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل التاسع: علو الهمة >>

الزهد في الدنيا:

فمن عرف هذه الحقائق وآمن بها فلا بد أن يزهد بعرض الحياة الدنيا ويقطع علائق قلبه منه، ترفعًا إلى ما هو أجل وأعظم، وأكرم وأبقى.

ولكن ليس معنى الزهد المطلوب ترك السعي في عمران الدنيا، وإعلاء بنيانها الحضاري، وترقية وسائلها، والانتفاع من خيراتها، بل الزهد الذي يتطلبه الإيمان باليوم الآخر إنما هو عدم تعليق همة القلوب والنفوس بمتع الحياة الدنيا وزخارفها وزينتها، وهذا الزهد المطلوب يستلزم تسخير ما يصل إلى يد الإنسان منها في طاعة الله التي تحقق له يوم القيامة الثواب العظيم، الذي يصغر ويتضاءل أمام نعيمه كل نعيم عاجل مهما جل وعظم.

وليس معنى الزهد المطلوب ترك الاستمتاع بما أحل الله من متاع الحياة الدنيا، فالاستمتاع المعين على القيام بالواجبات والبعد عن المحرمات، والمقرون بالنية الصالحة، عمل محبوب مرغوب في الإسلام، وهو في الحدود المعتدلة التي لا إفراط فيها ولا إسراف من العبادات، ولذلك قال الله تعالى في سورة (الأعراف 7):

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (33))

ففي هذا النص القرآني توجيه للتعجب من تحريم زينة الله التي أخرج لعباده، وللتعجب من تحريم الطيبات من الرزق، إعلانًا عن أن إباحة هذه الزينة وهذه الطيبات من الرزق من الأمور البدهية المعلومة بداهة من شريعة الله، ولكن إباحتها لا تعني الانغماس فيها، والافتتان بها، والانصراف الكلي إليها، ونسيان الله والدار الآخرة أو السعي إلى تحصيلها بمعصية الله، أو منع حق الله فيها، فكل ذلك يخرجها عن كونها زينة مباحة، على أن علو همة المؤمن يوجهه لمطامع أجل وأسمى، ويجعله دائم الطلب والشوق لما عند الله.

فهو يأخذ من نصيب الدنيا ما يجتاز به رحلة هذه الحياة سالمًا غانمًا، دون أن يتعلق به كل التعلق، أو يميل إليه كل الميل.

هذا حال المؤمن عالي الهمة، يأخذ نصيبه من الحياة الدنيا ضمن الحدود التي أذن الله بها، وقلبه وحبه وشوقه ومطالبه الساميات معلقة بما أعد الله للمتقين في الدار الآخرة من خيرات حسان، وهذا هو الزهد المطلوب من المؤمنين، إنه زهد القلوب واستصغار ما في الحياة الدنيا بالنسبة إلى ما في الدار الآخرة. وهذا التصور الصحيح مع أثره في النفوس والقلوب يجعل المؤمن العاقل يوجه معظم طاقاته وأنواع نشاطه إلى ما يحقق له يوم القيامة مطمع أجل وأعظم، وليس من شأن هذا التوجيه أن يفسد مصالح الدنيا، بل من شأنه أن يزيدها ارتقاءً، ويجعلها مشمولة بنسبة أعظم من سعادة المجتمع الإنساني كله.

بخلاف التعلق الكلي بالدنيا ومتاعها ولذاتها فإنه ينمي الحسد والتنافس بين الناس، وينتهي بالمجتمعات الإنسانية إلى الفساد وسفك الدماء وخراب العمران، ولذلك فإن من جعل كل همه مرتبطًا بالحياة الدنيا وزينتها، فإن الله يعطيه منها على مقدار عمله وما قسم له، ثم لا يجعل له يوم القيامة نصيبًا من النعيم المقيم، قال الله تعالى في سورة (هود 11):

(مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16))

فما كانوا يعملونه في الدنيا قد كان من أجل الدنيا، وقد وفى الله إليهم أعمالهم فيها ضمن قوانين كونه وسننه الثابتة، وحينما يأتي يوم الجزاء لا يجدون من أعمالهم التي عملوها من قبل إلا الكفر بالدار الآخرة وما فيها وما يتصل بذلك، ولذلك يكون جزاء كفرهم وسوء أعمالهم النار. أما الأعمال النافعة في الدنيا فقد ظهر بطلانها يوم الجزاء؛ لأنهم لم يعملوها ابتغاء مرضاة الله، ولا طلبًا لما في الدار الآخرة من نعيم مقيم. لقد كانت الدنيا همهم ومطلبهم فنالوا منها حظوظهم على قدر أعمالهم، ولم تكن همتهم عالية متطلعة إلى ما هو أجل وأسمى من كل ما في الدنيا، حتى ينالوا منه ما يرجون من ربهم.

فدل النص على أن الأعمال التي يراد بها ثمرات الحياة الدنيا فإن ثمراتها تتحقق للعاملين من غير نقصان، فهي سنة من سنن الله الثابتة، ولكن ما أريد به الدنيا فلا ثمرة له في الآخرة، ويدخل في هذا أعمال المرائين وأعمال الكافرين.

روى مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمةً من الدنيا، وأما المؤمن فإن الله تعالى يدخر له حسناته في الآخرة، ويعقبه رزقًا في الدنيا على طاعته.

وثبت في المرائين أن أعمالهم تحبط يوم الدين، وأن أجورهم على ما عملوا قد أخذوها ممن عملوا لهم في الدنيا، منها ثناء المثنين، ومدح المادحين وما أصابوه من تعويض على ما بذلوه ضمن سنة الثمرات الدنيوية.

خطأ في مفهوم الزهد:

ويفهم بعض الناس الزهد فهمًا خاطئًا، إذ يرون أن الإسلام يحب الفقر للمسلمين ويدعوهم إلى تفضيله وإيثاره، فيجعلهم هذا التصور الخاطئ يبطئون همتهم عن العمل والإنتاج وعمران الدنيا، ويرغبون في اللجوء إلى الزوايا والتكايا والصوامع بزعم التفرغ للعبادة وإيثار عمل الآخرة، ويصابون بعد ذلك بداء الكسل والإخلاد إلى الراحة، وداء الطمع بعطاءات الناس ومنحهم، وما يبذلونه لهم من مآكل ومشارب.

وسبب خطئهم أنهم لم ينظروا إلى جملة النصوص الإسلامية التي يكمل بعضها بعضًا، لقد تعلقوا بنصوص التزهيد في الدنيا وأساؤوا فهمها، ولم ينظروا إلى نصوص الحث على العمل والكسب وعمران الدنيا والأخذ بأسباب القوة، ونصوص الحث بعد ذلك على البذل في سبيل الله بعد الكسب الحلال زهدًا في الدنيا وابتغاءً لرضوان الله.

إن من الواجب لدى بحث أي موضوع جزئي من الموضوعات الإسلامية أن ينظر الباحث إلى النصوص المتعلقة به، والنصوص المتعلقة بما يقابله، وسائر النصوص التي لها ارتباط بالموضوع الكلي الشامل للموضوع الذي يبحث فيه ولغيره من الموضوعات، مع نظرة شاملة إلى الإسلام بوجه عام. بهذه النظرة الشاملة يظهر مكان الموضوع الجزئي، وتظهر حدوده، وقيوده وشروطه، ومفاهيمه الصحيحة، ويكون الباحث أبعد عن الخطأ في الفهم، ولا يأخذ الموضوع الجزئي في تصوره أكثر من حدوده ضمن الساحة العامة المخصصة للموضوع الكلي، من أصل الخريطة العامة للإسلام ومفاهيمه الكلية والجزئية.

فمن أراد أن يبحث مفاهيم الزهد الذي رغب الإسلام فيه، فعليه أن يبحث أيضًا مفاهيم العمل الذي رغب الإسلام فيه أيضًا، وربى المسلمين عليه، من زراعة وصناعة وعمران وتنمية لمختلف الثروات، وخدمات اجتماعية، وغير ذلك من أعمال كثيرة فيها إنتاج أو استثمار أو خدمة أو إصلاح وتحسين حضاري. وعليه أن يبحث أيضًا دعوة الإسلام إلى البذل والعطاء، ودعوته إلى التخفف من الانغماس في تناول الشهوات واللذائذ الدنيوية، التي تورث القلوب الغفلة عن الله، والقسوة المجففة لمنابع الرحمة فيها، والتي تنفخ في النفوس الخفة والطيش والشره الزائد إلى المتع العاجلة، والبطر القاتل، وتنفخ فيها الكبر والعجب بالنفس، والاستعلاء على الناس، والاستهانة بما هو سبيل السعادة الأخروية، ثم تدفع بها إلى مواقع الطغيان، والتي تغشي الفكر فتحجبه عن كثير من الحقائق، وتجعل ذكاءه ألعوبة في أيدي الأهواء والشهوات، وأداةً تسخر للشره والكبر والعجب والطغيان.

فدعوة الإسلام إلى الزهد في الدنيا ليست دعوة إلى ترك العمل والإنتاج والاستثمار، وليست ترغيبًا بالفقر والضعف والمسكنة، بل هي تربية أخلاقية تدفع المسلم إلى فضائل البذل والعطاء، والبعد عن رذائل البخل والشح، ومسببات قسوة القلب، والكبر والعجب والاستعلاء على الناس والطغيان والاستهانة بالفضائل، وما ينجم عن ذلك من انحطاط كبير عن مراتب الكمال الإنساني في الفكر والنفس والسلوك.

ودعوة الإسلام إلى الزهد في الدنيا دعوة إلى القناعة بما قسم الله من رزق، والالتزام بما أذن الله من كسب، وتربية على العفة عما في أيدي الناس، وعدم الطمع بما لدى الآخرين، وعدم النظر إليه بحسد ورغبةٍ بامتلاكه.

ودعوة الإسلام إلى الزهد في الدنيا دعوة إلى أن يصرف المؤمن قلبه عن التعلق بالأشياء الدنيوية لذاتها أو للذتها، كي يتوجه شطر الآخرة ومحبة الله وابتغاء مرضاته، حتى إذا رأى المؤمن أن مرضاة الله تتحقق بالتخلي عن عرض الحياة الدنيا تخلى عنه ابتغاء مرضاة الله، وإيثارًا لثواب الآخرة. وهكذا يستطيع المؤمن الصادق أن يكون قلبه غير متعلق بزينة الحياة الدنيا، وما فيها من مالٍ ومتع وتفاخر وتكاثر، مهما كان في يده من ذلك، بل يستخدم كل ما يجنيه للظفر بنعيم الآخرة ومجدها، ولا يبطئه ذلك عن العمل والكسب؛ لأن العمل والكسب عندئذ من أفضل العبادات، وهو أفضل من التفرغ للعبادات المحضة بنسبة عظيمة، فمن تفرغ ليكون كلًا على غيره، وهو يزعم أنه قد تفرغ للعبادة، فإن من ينفق عليه هو أفضل منه.

أما من تفرغ للعلم وإرشاد الناس وتعليمهم فهو عامل في أشرف الأعمال وأفضلها، وعلى الأمة أن تكفيه معاشه، وهو من أزهد الناس في الدنيا متى كان صادقًا مع الله.

هذا المفهوم الإسلامي الصحيح إنما نتوصل إليه بعد النظر الشامل إلى النصوص الإسلامية المختلفة وبعد التصور الشامل لمفاهيم الإسلام.