موسوعةالأخلاق الإسلامية-علو الهمة (قصة المغرور بالدنيا صاحب الجنتين وصاحبه المؤمن)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-علو الهمة (قصة المغرور بالدنيا صاحب الجنتين وصاحبه المؤمن)
400 0

الوصف

                                                     علو الهمة

                                      قصة المغرور بالدنيا صاحب الجنتين وصاحبه المؤمن
              الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل التاسع: علو الهمة >>

قصة المغرور بالدنيا صاحب الجنتين وصاحبه المؤمن:

لقد ضرب الله مثلًا قصة رجلين: أحدهما غرته الدنيا، إذ وسع الله عليه في الرزق، فآتاه جنتين من أعناب، فافتخر بما آتاه الله على صاحبه، وظن أن جنتيه خالدتان، وأنكر الساعة ويوم الجزاء، فوعظه صاحبه، فلم يستجب لموعظته، فسلبه الله النعمة، فندم على ما كان منه من كفر بربه وشرك به، وقال: يا ليتني لم أشرك بربي أحدًا.

قال الله تعالى في سورة (الكهف 18):

(وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا (34))

لقد نفخ الاغترار بكثرة المال وقوة الرجال في رأس صاحب الجنتين، فجعل يفتخر على صاحبه في حوار كلامي جرى بينهما، ويقول له على سبيل الكبر والاستعلاء والتفاخر: أنا أكثر منك مالًا وأعز نفرًا.

إن داء هذا الرجل المغرور بماله ورجاله داء منتشر في الناس انتشارًا واسعًا، ونجد أمثلة كثيرة له في كل زمان وفي كل مكان، وفي كل بيئة اجتماعية كبيرة أو صغيرة.

إن أي إنسان لم يهذبه الإيمان بالله والنظر الدراك إلى حكمة الله في العطاء والمنع، والخفض والرفع، متى رأى توافر قوتي المال والرجال بين يديه، نفخ الغرور برأسه، فغشي على بصيرته، فظن أنه قد جمع ما قد جمع من مال وقوة أنصار بقوة ذكائه وعظيم حيلته، وأن ذلك يرجع إلى أنه إنسان عظيم في ذاته كبير في خصائصه، جدير بأن يكون عظيم القدر جليل الخطر بين الناس، وعلى الناس أن يعترفوا له بذلك، فإذا لم يعترفوا له فهم يظلمونه في حقه عليهم.

وهذه الأوهام التي تستبد به تجعله يحقد على الناس، ويحاول الانتقام منهم إذا لم يرفعوا مقداره، ويعلو بينهم مكانته على أساس أنه أكثر من غيره مالًا وأعز نفرًا.

وتتولد لديه عقدة الكبر والعجب بالنفس، ثم يكون لهذه العقدة ظواهر في السلوك، كالاختيال، والتعاظم في الجسم، والتنطع في القول، والإعراض عن مخاطبة الذين يراهم دونه، والصلف وتصعير الخد بإمالة العنق على سبيل الشموخ وتجميع عروق الرقبة وجعلها تنتصب إلى الأعلى، وجر الثوب عند المشي، ولف الرجل على الرجل إذا جلس على كرسيه، مع توجيه نعله أو أسفل قدمه إلى وجوه جلسائه، وعدم تثبيت نظره تجاههم، بالتشاغل عنهم بأمور بين يديه لا تعنيه ولا غرض له منها إلا الانصراف والإعراض عنهم تكبرًا.

وبعض الناس من هؤلاء المتعاظمين يختار لعينيه النظارات السوداء، ليجمع بين مظهر إعراضه المستكبر ببصره وبين ما يعنيه أن ينظر إليه ويتفحصه بين جلسائه.

وحين لا يكترث الناس به، ولا يجدون سببًا حقيقيًّا يعطيه هذه العظمة، يصرح بحجته، ويقدم الدليل على أنه مستحقٌ للعظمة، فيقول وهو يفخم منطقه وينفخ شدقيه: أنا أكثر مالًا وأعز نفرًا.

ويقول مثل مقالة فرعون إذا كان ذا ملك وسلطان: أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي؟

وهنا تسخر الحقيقة منه أيما سخرية، وكثيرًا ما تسخر منه المقادير الربانية الحكيمة، فتسلبه النعمة، فيتصاغر فيه كل شيء كان قد تعاظم بالأمس.

ونظير التكاثر بالمال التكاثر بالشهادات والتعاظم بالرفيع منها، فقد ينفخ الغرور في الرؤوس الفارغة من العلم الصحيح والعقل الرجيح، متى أحست بأنها تمتلك من الشهادات ذات الألقاب الفخمة ما لا يملكه أقرانهم منها، وهنا يتوهمون أن العبرة بالأوراق والوثائق الموقعة، لا بالمعارف الصحيحة التي تثقل أقدارهم في ميزان الكفايات، وحينما يتمكن هذا الوهم من نفوسهم تبدأ ظواهر عقد الغرور والكبر والعجب والتفاخر وجنون العظمة تتدفق بشكل عجيب، غير معهود في عالم العقلاء، شبيه بما كان يظهر عند الذين يغترون بكثرة أموالهم.

وعقدة الكبر هذه تتولد من أمور كثيرة تتصل بما هو من زينة الحياة الدنيا والتفاخر والتكاثر بها، فمنها كبر الغنى، ومنها كبر الاعتزاز بالأتباع والأنصار، ومنها الكبر الطبقي، ومنها الكبر القومي، والكبر العرقي، وكبر المركز الاجتماعي، وكبر المرتبة الوظيفية، وكبر الشهادات العليا، وكبر الألقاب الاجتماعية، وكبر الخصائص الفردية الفطرية، كالجمال والذكاء والقوة الجسدية، وهكذا إلى غير ذلك مما يولد الشعور بامتلاك أكثر من الآخرين.

أما صاحب الجنتين فقد قال لصاحبه وهو يحاوره: أنا أكثر منك مالًا وأعز نفرًا، سورة (الكهف 18):

(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتٌّ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لَكِنَّ هُوَ اللهُ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41))

حسبانًا: أي عذابًا مهلكًا، والحسبان في اللغة العذاب، والبلاء، والجراد، والعجاج، والشر، وسهامٌ صغار يرمى بها عن القسي الفارسية، وكل ما يُرمى به على شيء كمطر من حجارة أو بردٍ لإتلافه.

صعيدًا زلقًا: أي أرضًا ملساء لا نبات فيها تنزلق عنها الأقدام فلا تثبت.

وهكذا أبان النص القرآني أن الغرور قد سيطر على هذا المتكاثر بماله ورجاله سيطرة تامة، حتى أخذ يتوهم لجنته الخلود، ثم جره هذا التوهم إلى إنكار قيام الساعة، وربطه بالأرض ربطًا كاملًا. ثم أطغاه الاستغناء فأنساه خالقه، وحينما تهزه دلائل الإيمان تأتيه وساوس الشيطان فتقول له: لو لم تكن ذا حظوة عند ربك ما حباك الخير الكثير في الدنيا، وعلى فرض صدق الأقوال المنذرة بالدار الآخرة فإنك محظوظ عند ربك سيعطيك فيها خيرًا مما أعطاك في الدنيا، فيصدق هذه الوساوس الشيطانية فيقول: وما أظن الساعة قائمة، ولئن رددت إلى ربي لأجدنّ خيرًا منها منقلبًا.

لكن الله عز وجل لا يتركه فريسة أوهامه ووساوس شيطانه، بل يقيض له من يذكره بالحق ويعظه به، فأرسل له صاحبه المؤمن فحاوره وناظره وذكره بالحق، وكشف له أن ما وصل إليه إنما هو من قبيل الغرور بالنفس، والغرور بالدنيا، وأن إنكار يوم الجزاء كفرٌ بالله وتكذيب له، ثم ذكره بعقوبات الله، وبأن متع الدنيا وأموالها وزينتها عرضة للزوال، وعرضة للقبض بعد البسط، وللتدمير بعد التعمير، وللسلب بعد العطاء، فمكر الله لا يؤمن، ونقمته قريبة مهما أمهل، ولكن المغرور قد كان في غشاوة على بصيرته، من ظواهر الزينة التي يستمتع بها، فلم يسمع نصيحة صاحبه المؤمن، وبقي سادرًا في غيه، حتى حلت به العقوبة، وفاجأته المصيبة، فسلبه الله نعمته، فأصبح نادمًا يتحسر، قال الله تعالى في سورة (الكهف 18):

(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43))