موسوعةالأخلاق الإسلامية-علو الهمة (من دوافع الحرص على الدنيا الأمل بطول البقاء)

الوصف
علو الهمة
من دوافع الحرص على الدنيا الأمل بطول البقاء
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل التاسع: علو الهمة >>
من دوافع الحرص على الدنيا الأمل بطول البقاء:
درس تعليمي رسم فيه الرسول صلى الله عليه وسلم خطوطًا بيانية خطها لأصحابه، ورمز بهذه الخطوط التي رسمها إلى حقائق أوضحها لهم، فجعل بعضها مثالًا للإنسان، وبعضها مثالًا لأجله المحيط به، وبعضها مثالًا لأمله الممتد وراء أجله، وبعضها مثالًا للأعراض القائمة في طريق حياته، والتي لا بد أن يصيبه أحدها بعلة، ثم يأتيه أجله مع واحد منها.
ودل الرسول صلى الله عليه وسلم بصنيعه هذا على أهمية استخدام الوسائل التعليمية لإيضاح الحقائق عن طريق السمع والبصر، وعن طريق الرسوم التي تقرب الحقائق المجردة للتصور.
روى البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: خط النبي صلى الله عليه وسلم خطًا مربعًا، وخط خطًا في الوسط خارجًا منه، وخط خططًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي بالوسط؛ فقال:
هذا الإنسان، وهذا أجله محيطًا به، أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا.
فهذا الرسم يوضح أن الإنسان محصور ضمن مربع أجله، ويوضح أن أمله في الحياة خارج ممتد وراء مربع أجله، فهو يسعى وراء آمالٍ دنيوية كثيرة يأتي أجله من دونها، يحدوه إليها الغرور والطمع. ويوضح أيضًا أن من دون الأجل أعراضًا مالئة طريق حياة الإنسان، ويسير الإنسان في حياته متخذًا مسيرته ضمن هذه الأعراض، فهو لا يدري عند أي منها يكون أجله، وهذه الأعراض ينبغي أن تكون مذكرة له بالموت، ومخففة من طول أمله، ولكن قلّ من الناس من يتعظ ويتذكر. وبعض الناس تقعده العلة المرضية، ويظل مع ذلك طويل الأمل بالحياة، مع أن أيّ عرض من أعراض الحياة مهما صغر كافٍ لأن يكون أجل الحياة عنده، وقد يأتي الأجل من دون عرض مرض، وكم من عثرة يسيرة مات بها عاثرها، وكم من علة خفيفة كانت القاضية على من اعتل بها، ورب داء دوي شديد قاتل لا يقتل صاحبه لأنه لم يحن أجله، ومع ذلك فأية لحظة تمر بالإنسان قد يكون عندها نهاية أجله، ومع كل نفسٍ يقذفه الإنسان من صدره احتمال أن يكون هو النفس الأخير.
فطول الأمل بالحياة الدنيا مفسدة للإنسان؛ لأنه ينسيه الدار الآخرة والسعي لها، ويولد فيه جملة من قبائح الأخلاق ورذائلها، ويدفعه إلى ارتكاب كثير من حماقات السلوك السيئ في الحياة.
إن طول الأمل يلقي على بصيرة الإنسان غشاوات الغفلة، فلا يحسب حسابًا للموت الذي قد يباغته وهو غارق في آثامه، سارح في أوهامه، متخبط في أضغاث أحلامه.
ولذلك أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر بأن يكون في الدنيا كأنه غريب أو عابر سبيل، روى البخاري عن عبد الله بن عمر قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال:
كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل.
وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
فمن الأفضل للإنسان أن يذكر نفسه دائمًا بالموت، ليخفف من شدة أمله بطول البقاء، حتى لا يفسد نفسه طول أمله، وفي الوصية بهذا روى الترمذي عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
أكثروا ذكر هاذم اللذات.
(قال الترمذي: حديث حسن).
هاذم اللذات: هو الموت، ووصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه هاذم اللذات لأنه يقطعها قطعًا سريعًا، والهاذم لغة هو القاطع بسرعة، والهاذم أيضًا هو الذي يأكل بسرعة فيزدرد الطعام ازدرادًا.
وما دام الموت قد يباغت الإنسان دون سابق إنذار فمن المفروض أن يعد المؤمن له عدته، وهذا ما أوصى به الإسلام وأكثر من التذكير به.
روى الترمذي بإسناد حسن عن أبي بن كعب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلث الليل قام فقال:
يا أيها الناس، اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه.
قال أبي: قلت: يا رسول الله، إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟. فقال:
ما شئت
. قلت: الربع؟ قال:
ما شئت فإن زدت فهو خير لك
. قلت: فالنصف؟. قال:
ما شئت فإن زدت فهو خير لك
. قلت: فالثلثين؟. قال:
ما شئت فإن زدت فهو خير لك
. قلت: أجعل لك صلاتي كلها. قال:
إذًا تكفى همك، ويغفر لك ذنبك.
وفي الاستعداد للموت، أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بأن لا يبيت الإنسان المسلم ليلتين أو ثلاث ليال إلا ووصيته مكتوبةٌ مهيأة عنده، ترقبًا لاحتمالات مباغتة الموت دون سابق إنذارٍ من شيخوخة أو مرض.
روى البخاري عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده.
قال ابن عمر: ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك إلا وعندي وصيتي.
وفي الاستعداد للآخرة وعدم الالتهاء بالأموال والأولاد عن ذكر الله، والتحذير من مفاجأة الموت والإنسان غافل مشغول بزينة الحياة الدنيا، خاطب الله الذين آمنوا بقوله في سورة (المنافقون 63):
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَن يَّفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11))
ففي هذا النص القرآني عظة كافية بتذكر الموت والعمل لما بعد الموت، وعدم التلهي بزينة الحياة الدنيا عن ذكر الله، فإذا جاء الأجل انقطع الأمل، وانتهى دور العمل، وعندئذ لا مجال للتأخير ( وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا)
وفي التنديد بطريقة الكافرين الذين يلهيهم الأمل، يقول الله تعالى في سورة (الحجر 15):
(رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3))
إنه الأمل الذي يجعل الإنسان في غرور من أمره، فيلهيه بالأوهام ويشغله عن إبصار الحقائق والتعلق بها، حتى يجعله ينزلق إلى مواقع الكفر ويقيم فيها.
* وأمل الكافرين ذو شقين:
الشق الأول:
أملهم بطول الأجل في الحياة الدنيا، ومن هذا الأمل يتفرع أمل آخر، وهو أملهم باغتنام أكبر قدر يتصورونه من لذات الحياة الدنيا وزينتها، وهذا الأمل يجرهم إلى الكدح سعيًا في مناكب الأرض بكل طاقاتهم الجسمية والفكرية والنفسية، ليجمعوا منها ما به يستمتعون، ثم هم يلتقطون بعد الساعات الطويلة من الكدح المضني لحظات لذة ومتعة، منغضة بأكدار كثيرة، أو غير منغضة إلا أنها عابرة قصيرة تثير في أنفسهم آمالًا أوسع. ثم يسلمون أنفسهم إلى الرقاد الذي هو بمثابة الموت بالنسبة إلى الشعور، فإذا استيقظوا واصلوا أعمال الكدح أملًا بأن يجمعوا ما به يستمتعون.
وتتشابه الأيام، وتمر الأعوام، ويظل الأمل أسبق من الكدح، وكلما ضاعف الإنسان من كدحه اشتد أمله يعدو أمامه، فلا هو يغيب عن ناظره ببعده حتى ينقطع عنه، ولا هو يدنو منه حتى يقبض عليه ويشعر بأنه قد ظفر به، ولكن بين بين، وقد يدنو منه ليلهب نار طمعه، فإذا كان منه عند ملمس رؤوس الأنامل ابتعد عنه، كمن يدنو من الشاطئ في البحر، حتى إذا كاد أن يلمسه جذبته موجة إلى غمر العباب، فأبعدته عنه، وتتكرر القصة وهو مشغول بالأمل، لاهٍ بالعمل له عن كل عمل، حتى تنتهي مدة الامتحان ويحين الأجل، وحينئذٍ تنقطع الآمال، وتنتهي الحياة الأولى، ويأتي دور الحساب والجزاء.
الشق الثاني:
أملٌ احتمالي بما بعد الموت، وهو أمل تركبه في نفوسهم وساوس الشياطين، وقد عبر عنه صاحب الجنتين الذي قال لصاحبه وهو يحاوره: (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتٌّ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنْقَلَبًا)
وهذا الأمل الاحتمالي ينخدع به كثير من الكافرين المترفين الموسع لهم في الحياة الدنيا وقد سقط في فخه صاحب الجنتين هذا، كما أوضحت لنا قصته سورة الكهف.
هذا أمل الذين كفروا باليوم الآخر، أما المؤمنون فلهم من هذا الأمل ظلال دون الكفر، وأملٌ بطول الأجل وإصلاح العمل في المستقبل، وأمل بعفو الله ورحمته وغفرانه مهما ارتكبوا من صغائر الذنوب وكبائرها، ثم تأتيهم مناياهم وهم في غفلاتهم ومعاصيهم مقيمون، وعن الله وذكره معرضون.