موسوعةالأخلاق الإسلامية-علو الهمة ( وسائل التربية الإسلامية لعلاج داء الحرص على الدنيا)

الوصف
علو الهمة
وسائل التربية الإسلامية لعلاج داء الحرص على الدنيا
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل التاسع: علو الهمة >>
وسائل التربية الإسلامية:
الوسيلة الأولى:
وقد عالج الإسلام هذا الداء بصدق الإيمان بالدار الآخرة وما فيها، وبالتذكير الدائم بها، وبما فيها من نعيم وعذاب، وجنة ونار.
فالغفلة عن الآخرة تورث التعلق الكامل بالدنيا، ولذلك نلاحظ أن أكبر علة تجعل الكافرين يتنكبون صراط الهداية والخير هو كفرهم بالآخرة وما فيها، وظلال هذا الانحراف الذي يسببه الكفر بالآخرة تمتد إلى الذين يغفلون عن الآخرة ولا يضعونها في حسابهم دائمًا.
قال الله تعالى في سورة (المؤمنون 23):
(وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74))
أي: فصراط الهداية الذي تدعوهم إليه يا محمد يتنكبه ويعدل عنه الذين لا يؤمنون بالآخرة.
والذين لا يؤمنون بالآخرة تزين لهم أعمالهم السيئة؛ لأنهم يتعلقون بالدنيا وحدودها تعلقًا كليًّا، فتنطمس بصائرهم عن رؤية الحقيقة، فيسيرون مع أهواء أنفسهم بعمهٍ شديد، فيهوون إلى الهلاك، وهم يحسبون أنهم يلهون ويتمتعون في أرجوحة الحياة الدنيا ولذاتها، قال الله تعالى في سورة (النمل 27):
(إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الآَخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ (5))
والذين يغفلون من المؤمنين عن الآخرة يصيبهم نصيب من داء الكافرين بها، فتزين لهم أعمالهم السيئة، وينطلقون في زينة الحياة الدنيا وقد عشيت أبصارهم، وغُشي على بصائرهم.
إن الإيمان الصادق بالآخرة، وإحضار هذا العنصر الإيماني في ساحة التصور، من شأنه أن يحول دوافع التنافس في نفوس الناس إليها، وبالتحول إلى التنافس في الخير يستقيم سلوك الإنسان وتصح مسيرته في الحياة الدنيا.
الوسيلة الثانية:
ومن هذا نلاحظ أن من وسائل التربية الإسلامية وسيلة التحويل، الذي لا تضغط فيه الطاقات، وإنما توجه في المسير النافع وهي عاملة منطلقة، فلا يحدث صدها كبتًا، بل يستفاد من انطلاقها في فعل الخير.
إنّ خطة التحويل هي من أنجع الوسائل التربوية لإصلاح الأخلاق وتقويم السلوك، وقد اعتمد الإسلام على وسيلة التحويل لتخفيف التنافس على الدنيا من نفوس المسلمين، وبهذا التحويل استطاع أن يمتص كثيرًا مما في الأنفس، بصرفه إلى ميادين التنافس في العمل الصالح، للظفر بالمغانم العظيمة المدخرة للذين آمنوا وعملوا الصالحات في الدار الآخرة دار الجزاء. وبهذا استطاعت التربية الإسلامية أن تجعل المسلمين الأولين ومن تبعهم بإحسان أكثر الناس استقامة على صراط الهداية والخير في الحياة الدنيا.
وهذه الوسيلة التربوية نافعة جدًّا في مختلف مجالات التربية للصغار والكبار.
كثيرًا ما يتخاصم الصغار على لعب تافهة صغيرة، وقد يصل الخصام بينهم إلى ضجيج وتقاتل مقلق للراحة، وقد يصل بهم الحال إلى أن يؤذي بعضهم بعضًا، ويعتدي بعضهم على بعض، بدافع التنافس بينهم، ليظفر كل منهم باللعب التي لا ترضي مطامع الجميع، ويتدخل المربي الحكيم بأسلوبه البارع، فيحول نظرهم عن اللعب الصغيرة إلى ما هو أهمّ وأكثر تأثيرًا على نفوسهم، كرياضة يشترك معهم فيها، أو قصة شائقة يحكيها لهم، وعندئذ يجدهم قد ألقوا اللعب من أيديهم وطرحوها أرضًا، وانقطع تنافسهم عليها، ويرسل المربي الحكيم من يجمع اللعب ويخفيها، وتنحل المشكلة.
وبوسيلة التحويل وجدنا أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخذوا يتنافسون في السبق إلى أعمال الخير تسابقًا عجيبًا، ويغبط بعضهم بعضًا على الأعمال الصالحات، وقد انقطعت أنظارهم عن التنافس في الدنيا لاغتنام زينتها ومتاعها ولذاتها.
ويظهر لنا هذا التنافس الذي تحول إلى التنافس في الخير، فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال:
وما ذاك؟
، فقالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أفلا أعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، إلا من صنع مثل ما صنعتم؟.
قالوا: بلى يا رسول الله. قال:
تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة.
فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
أهل الدثور: أي أهل الأموال الكثيرة وأصحاب الغنى.
الوسيلة الثالثة:
من وسائل التربية التي اتخذها الإسلام لمنع نظرات التنافس في واقع حياتي لا بد أن يوجد فيه تفاضل بين الناس في حظوظهم من الحياة الدنيا، تربية القناعة في النفس، والرضى بقضاء الله وقدره، واعتقاد أن ما قدره الله للعبد هو الأفضل له، وهو الخير له مما تشتهيه نفسه وتتطلع إليه، والبصيرة الحقة بحقيقة، سورة (البقرة 2):
(وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (216))
الوسيلة الرابعة:
ومن وسائل التربية معالجة الإنسان نفسه بالنظر إلى من هو دونه في الحياة الدنيا؛ عندئذ يجد نفسه مفضلًا على كثير من عباد الله في نعم كثيرة. وقد أرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذه الوسيلة، فقد روى مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم.
وفي رواية عند البخاري:
إذا نظر أحدكم إلى من فُضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه.
الوسيلة الخامسة:
ومن وسائل التربية التحرر من العبودية للدنيا وزينتها، وسلطان أموالها وشهواتها، بتقوية الإرادة، وتغذية مشاعر عزة النفس، وتصعيد مطالبها عن الفانيات إلى الباقيات الخالدات.
وفي تحرير المسلم من العبودية للدنيا ومظاهرها، روى البخاري، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض.
الخميصة: نوع نفيس من الثياب الصوفية المخططة، كانت معروفة بنفاستها، كما أن القطيفة كانت من نفيس الثياب. تشبه ما يسمى في عصرنا بالمخمل.
الوسيلة السادسة:
ومن وسائل التربية الإيمان بالتعويض المضاعف للمؤمنين الذين لا يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، ومن التعويض الثابت في البيانات الإسلامية ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس وعمران بن الحصين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء.
فالغنى كثيرًا ما يولّد نفسية الطغيان، والطغيان يقذف صاحبه في النار، أما النساء فلكثرة انحرافهن عن صراط الله وطغيانهن بسلطان أنوثتهن واستخدام ذلك في فتنة الرجال، وفي ألوان شتى من الظلم.
وروى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون، غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار.
أصحاب الجد: هم أصحاب الحظ والغنى في الدنيا، ويحبسون لسؤالهم عن أموالهم من أين اكتسبوها وكيف أنفقوها.
وروى الترمذي بإسناد صحيح عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام.
وإنه لتعويض مجزٍ جدًّا عن فقر في عمر محدود، وذلك لمن آمن وصبر ورضي عن الله.
الوسيلة السابعة:
ومن وسائل التربية الاقتناع بأن مال الإنسان هو ما انتفع به في الدنيا، وما ادخره عند الله ببذل صالح في صدقة ترضي الله تعالى أو جهاد في سبيله، أو أيّ طاعة من الطاعات، وأي وجه من وجوه الخير والبر. وفي الإقناع الإسلامي بهذه الحقيقة، روى مسلم عن عبد الله بن الشخير قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) قال:
يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟!.
فحقوق الإنسان الأساسية من الرزق في الدنيا محصورة بضروريات معاشه، وأما ما عدا ذلك فزيادة ورفاهية، إذ الدنيا بمثابة قاعة امتحان، لا حق للممتحن فيها بأكثر من حاجاته الأساسية الضرورية، أما دار النعيم فهي دار الجزاء الأكبر يوم الدين، وتلك الدار هي محل التطلع السامي بالنسبة إلى المؤمنين، وطريقهم إليها هو العمل الصالح في الحياة الدنيا، وعدم تعلق القلب بها.
وروى الترمذي بإسناد صحيح عن عثمان بن عفان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
ليس لابن آدم حقٌ في سوى هذه الخصال: بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجلف الخبز والماء.
جلف الخبز: أي خبز ليس معه إدام، أو هو غليظ الخبز.
الوسيلة الثامنة:
ومن وسائل التربية الاقتناع بأن الدنيا مزرعة للآخرة، وأنها ليست دار إقامة، وأهلها فيها عابرو سبيل، وفي التربية على هذه القناعة، روى البخاري عن عبد الله بن عمر قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال:
كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل.
وحين يتبصر المسلم بمختلف هذه الحقائق الإيمانية عن الدنيا والآخرة، لا يرى الدنيا إلا بمثابة السجن الذي يضيق به وينتظر الخلاص منه، بعد أن يؤدي فيه وظيفته خير أداء، ويغنم في مرحلته أكبر قدر مستطاع من العمل الصالح، وهذا ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله فيما رواه مسلم عن أبي هريرة:
الدنيا