موسوعةالأخلاق الإسلامية-علو الهمة ( 10- اشتغال الإنسان بما يعنيه وانصرافه عما لا يعنيه)

الوصف
علو الهمة
10- اشتغال الإنسان بما يعنيه وانصرافه عما لا يعنيه
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل التاسع: علو الهمة >>
10- اشتغال الإنسان بما يعنيه وانصرافه عما لا يعنيه
من ظواهر خلق علو الهمة أن يشتغل الإنسان بما يعنيه ويترك ما لا يعنيه، فاشتغال الإنسان بما لا يعنيه فضول يضيع به وقته الذي هو رأس مال حياته، وهو يدل على نقص العقل أو غلبة الهوى، وحينما يعجز الإنسان عن ملء وقته بما يعنيه، أي بما ينفعه ويفيده في دنياه وآخرته، يحاول أن يملأ فرغه بما لا يعنيه ولا يفيده في دنياه ولا آخرته.
واشتغال الإنسان بما لا يعنيه لهوٌ أو شبهه، بل هو في بعض الأحيان لا يقتصر على كونه مضيعة للوقت بما لا فائدة فيه للجسم أو للعقل أو للنفس، ولكن يزيد على ذلك فيكون جنايةً على الجسم والعقل والنفس وظلمًا لها، إذ يجلب لها مضرة عاجلة أو آجلة.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
(رواه مالك وأحمد عن علي بن الحسين بإسناد صحيح).
ومن اشتغال الإنسان بما لا يعنيه أن يغتاب أخاه المؤمن بغية تهديم مكانته بين الناس، فيجني المغتاب بذلك على نفسه عند الله إثم ذكره أخاه بما يكره.
ومن اشتغال الإنسان بما لا يعنيه أن يكون نمامًا، يمشي بين الناس بالنميمة فيجني بذلك على نفسه عند الله، إذ يكسب إثم السعي بين الناس بالفساد.
ولذلك يترفع المؤمن العاقل عالي الهمة عن هذه القبائح، فلا يشغل نفسه بما لا يعنيه، بل يرى أن مما يعنيه أن لا يشتغل بما يضره ويؤذيه عند الله.
من أجل ذلك يترفع عباد الرحمن عن محاورة الجاهلين، والخوض معهم في أحاديث الجهل، ويترفعون عن اللغو، ويترفعون عن لهو الحديث؛ لأنهم يعرضون عما لا يعنيهم، ولا يشغلون أنفسهم إلا بما يفيدهم في آخرتهم، أو يفيدهم في دنياهم في حدود ما أذن الله لهم به.
وفي وصفهم يقول الله تعالى في سورة (الفرقان 25):
(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا (63))
إنه لما كان خطاب الجاهلين من الأمور التي لا تعني عباد الرحمن في شيء؛ لأنها لا تنفعهم في دنيا ولا آخرة، كان من واجبهم أن يعرضوا عنها ويقولوا للجاهلين: سلامًا عليكم، وينصرفوا عن مجالستهم، إذا لم يجدوا سبيلًا إلى نصحهم وإرشادهم حتى يقلعوا عن جهلهم، ولا بد أن يكون هؤلاء الجاهلون من صنف السفهاء الذين يخاطبون عباد الرحمن بالسوء من القول، فيشتمون، أو يقذعون، أو يتهكمون ويسخرون، والجهل هنا من نوع الجهل الذي ورد في قول الشاعر العربي:
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وليس هو الجهل المقابل للعلم، ولو كان من هذا النوع لكان من وظيفة عباد الرحمن تجاهه تعليم الجاهل، ونصيحته وإرشاده، فالتعليم والنصح والإرشاد مما يعني المؤمن، إذ ينفعه عند الله ما ينال عليه من أجر عظيم، وثواب جزيل، وكرامة عالية.
وفي وصف عباد الرحمن يقول الله تعالى أيضًا في سورة (الفرقان 25):
(وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72))
فمن أوصاف عباد الرحمن أنهم إذا مروا في حياتهم بأمر من أمور اللغو قولًا كان أو عملًا أعرضوا عنه، وكرموا أنفسهم عن النزول إلى مستواه؛ لأن همتهم علية، ولم يسمحوا لأنفسهم بأن تضيع في سبيله شيئًا من أوقات عمرهم، فزمنهم عندهم ثمين، ليس فيه محل للغو ولا للهو.
أما اللغو فهو كل ما يجب أن يلغى ويطرح مما لا خير فيه، ويقول أهل اللغة: اللغو: السقط وما لا يعتد به من كلام وغيره، ولا يحصل منه على فائدة ولا نفع.
فالاشتغال باللغو اشتغال بما لا يعني، وعباد الرحمن عقلاء أهل حصافة وبصر نافذ، لذلك فهم يكرمون أنفسهم وأوقاتهم عن الاشتغال بما لا ينفع ولا فائدة فيه لهم في آخرة ولا في دنيا مباحة.
أما الذين لا عقل لهم يبصرهم بما ينفعهم، ويكبح جماح أهوائهم وشهواتهم، ولا حصافة عندهم تجعلهم يحرصون على ما فيه منفعتهم وفائدتهم، فهم يتبعون اللغو واللهو والمساخر، ويبذلون في ذلك أموالهم وحياتهم، ويضيعون عمرهم وطاقاتهم سدى، ولو عقلوا لسعوا فيما فيه فائدتهم ومنفعتهم العاجلة أو الآجلة وكلما زاد عقل الإنسان كان حرصه الأكبر على أعظم خير يمكن أن يناله بعمله، ألا وهو خير الآخرة.
وهذا الصنف من الناس الذين لا عقل لهم يبصرهم بما ينفعهم، قد ذكره الله تعالى بقوله في سورة (لقمان 31):
(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (6))
فهذا صنف من الناس لا يكتفي بأن يضيع وقته في لهو الحديث، بل هو يشتريه بماله، ولا يكتفي أيضًا بذلك، بل غرضه منه أن يضل عن سبيل الله، ويتخذ سبيل الله هزوًا.