موسوعةالأخلاق الإسلامية-ظواهر خلقية لأكثر من أساسٍ خلقي( 2- الشجاعة)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-ظواهر خلقية لأكثر من أساسٍ خلقي( 2- الشجاعة)
277 0

الوصف

                                                     ظواهر خلقية لأكثر من أساسٍ خلقي

                                                              2- الشجاعة
                 الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل العاشر: ظواهر خلقية لأكثر من أساسٍ خلقي >>

2- الشجاعة والجبن

الشجاعة المحمودة هي الإقدام بعقل في مخاطرة يرجى منها خير أو دفع شر.

ويمكن تعريفها بأنها قوة في عزيمة النفس تدفع إلى الإقدام بعقل في مخاطرة بعمل أو قول لتحصيل خير أو دفع شر مع ما في ذلك من توقع هلاك أو مضرة يقينًا أو ظنًا.

وبملاحظة قيود هذا التعريف يتبين لنا أن الإقدام بغير عقلٍ جنون أو شبيه به، وأن الإقدام في غير مخاطرة لا يعتبر من الشجاعة بل هو نشاط وهمة، وأن الإقدام لا لتحصيل خير أو دفع شر لا يعتبر شجاعة محمودة، بل هو تهور مذموم.

فالمنتحر يقدم على ما فيه هلاكه، ولكن عمله ليس شجاعة، إنما هو جنونٌ أو جنوح في العقل، أو جبن وفرار من مواجهة صدمة عنيفة مؤلمة من صدمات الحياة؛ لأنه إقدامٌ لشر لا خير فيه، بخلاف التضحية بالنفس عن عقل لإعلاء كلمة الله، ومقارعة أعداء الله، فهو من أعلى مراتب الشجاعة؛ لأنه جودٌ بالنفس، والجود بالنفس أقصى غاية الجود، وهو جود في خير عظيم.

ولدى التأمل بغية تحليل الشجاعة إلى عناصرها النفسية الأساسية نلاحظ ما يلي:

إذا اجتمعت رغبة جامحة بتحقق مطلوب ما مع غشاوة تحجب صورة المخاوف المرتقبة، أو مع قناعة تهون وقوع المخاوف المرتقبة، وقد يقترن بذلك انفعال غضبي، أو انفعال تحد وتنافس، من ذلك يتكون في النفس مركبٌ يدفع إلى الإقدام على المخاطر، وهو ما يسمى بالشجاعة، وعلى مقدار اختلاف نسب هذه العناصر تزداد الشجاعة أو تقل، ثم لا تستمر بعد وقوع الآلام فعلًا إلا بأن يدعمها خلق الصبر.

وترتقي نسب الشجاعة بعوامل فطرية يكون بها القلب ثابتًا أمام المخاطر، أو متقبضًا لا يمد الأعصاب بالقوة المطلوبة.

وفي مقابل الشجاعة يأتي الجبن، ويرجع إلى وضوح رؤية المخاوف المرتقبة في التصور ولو على سبيل التوهم، مع ضعف أو عدم وجود القناعة الخاصة التي تهون المخاوف المرتقبة، ومع برود الانفعال الغضبي، وضعف انفعال التنافس أو التحدي، وتزداد نسبة الجبن بعوامل فطرية يكون بها القلب سريع التأثر بالمخاوف أو بتصوراتها ولو كانت أوهامًا غير واقعية.

وحين يفقد الشجاع عنصر الصبر يفقد شجاعته عند نزول الآلام التي لا يصبر على تحملها، فيكون شجاعًا في الأوائل جبانًا في الأواخر، فالصبر على تحمل المكاره التي يجرها الإقدام عن عقل وحكمة هو الذي يحافظ على استمرار خلق الشجاعة في النفس، وقد تكون الحاجة إلى الصبر مقترنة بأول مراحل الشجاعة.

وقد توجد الشجاعة في الإقدام إلى مخاطر لا تقضي الحكمة الفكرية السليمة بجواز الإقدام إليها؛ لأن الخير الذي يرجى أن يتحقق بهذا الإقدام، أو الشر الذي يرجى أن يدفع بهذا الإقدام، لا يكافئ تحمل المخاطر المرتقبة، ولكن ذلك يرجع إلى سوء تقدير صاحب هذا الإقدام لما هو فيه من أمر، فلا يكون إقدامه من قبيل التهور أو الجنون، بل هو شجاعة حقيقية، إلا أن الفكر عنده كان مخطئًا في تقديره، فأشبه العمل عمل المتهورين.

الشجاعة فطرية ومكتسبة:

ويتفاوت الناس فيما لديهم من شجاعة أو جبن في أصل فطرتهم، فبعض الناس مفطورون على خلق الشجاعة، وبعضهم مفطورون على الجبن، وبعض الناس أشجع من بعض في أصل الفطرة، فللشجاعة عند الشجعان نسبٌ متفاوتة. وبعض الناس أجبن من بعض في أصل الفطرة، وللجبن عند الجبناء نسبٌ متفاوتة. وما من شجاع إلا لديه نسبة ما من الجبن الفطري، وما من جبان إلا لديه نسبة ما من الشجاعة الفطرية، والتفاوت بين الناس فيما لدى كل منهم من نسبة من الجبن ونسبة من الشجاعة. كسائر المزدوجات في التكوين النفسي أو التكوين الجسدي، ففي التكوين الجسدي نلاحظ هرمونات الذكورة والأنوثة في كل ذكر وأنثى، ومتى غلبت نسبة إحداها الأخرى برزت صفاتها، فإن كانت الغالبة هي هرمونات الذكورة كان الإنسان ذكرًا، وإن كانت الغالبة هي هرمونات الأنوثة كان الإنسان أنثى، وعند التساوي يكون الإنسان خنثى، وما من إنسان لا يوجد فيه الصنفان معًا، وتزداد الذكورة كلما ازدادت نسبة هرموناتها في الجسد، وتزداد الأنوثة كلما ازدادت نسبة هرموناتها في الجسد.

كذلك مزدوج الجبن والشجاعة في كل إنسان.

اكتساب خلق الشجاعة ووسائله:

وحال خلق الشجاعة في قابليته للاكتساب كحال سائر الأخلاق، فالأخلاق كلها منها ما هو فطري ومنها ما هو مكتسب، فمن الشجاعة شجاعة فطرية، ومنها شجاعة مكتسبة، ومن الجبن جبن فطري ومنه جبن مكتسب.

ولاكتساب خلق الشجاعة وسائل، منها الوسائل التالية:

الوسيلة الأولى:
التدريب العملي بدفع الإنسان إلى المواقف المحرجة التي لا يتخلص منها إلا بأن يتشجع، وينبغي أن يكون ذلك بالمقدار الذي يغذي خلق الشجاعة، ولا يزيد نسبة الجبن.

الوسيلة الثانية:
الإقناع بأن معظم مثيرات الجبن لا تعدو أنها أوهام لا حقيقة لها.

الوسيلة الثالثة:
القدوة الحسنة وعرض مشاهد الشجعان، وذكر قصصهم، مع تمجيدهم، والثناء عليهم، ومنحهم المكافآت المغرية، لإثارة عنصر المحاكاة، ثم المتابعة، ثم المنافسة.

الوسيلة الرابعة:
إثارة دوافع التنافس، ومكافأة الأشجع بعطاءات مادية، مع الثناء والإطراء والتمجيد.

الوسيلة الخامسة:
ترسيخ عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر، وأن الإنسان لن يصيبه إلا ما كتب الله له، وترسيخ عقيدة الإيمان باليوم الآخر.

ولما كان التدريب العملي من أفضل الوسائل لاكتساب الأخلاق والمهارات، وجدنا أهل البادية يتمتعون بشجاعة اجتياز المفازات ومقارعة خطوبها، ووجدنا أهل الجبال يتمتعون بشجاعة ارتقاء شواهقها، واختراق عقباتها، ووجدنا أهل الجزر البحرية والسواحل يتمتعون بشجاعة ركوب البحار وخوض غمارها، ومصارعة أمواجها، كل ذلك بسبب التدريب العملي الذي يمارسونه بحكم بيئتهم التي تفرض عليهم ظروفًا معينة تغرس فيهم لونًا من ألوان الشجاعة، لا سيما إذا ارتبطت أرزاقهم ووسائل عيشهم بخوض غمار المخاوف.

وللإقناع تأثير فعال في غرس الأخلاق أو تهذيبها في الأنفس، فمن عرف فضيلة الشجاعة وفوائدها، ورذيلة الجبن ومضاره، تكونت لديه عناصر مهمة مساعدة على اكتساب خلق الشجاعة، وكذلك سائر الأخلاق.

وللقدوة الحسنة وللمشاهدة والقصة أثر إيحائي كبير في الأنفس، فمشاهدة أعمال الشجعان الأبطال، وذكر قصصهم، من الوسائل المساعدة على غرس خلق الشجاعة، وهذا ما كانت تلجأ إليه الأمم في مشاهد البطولات، وفي تداول سير أبطالها وشجعانها، ليغرس ذلك في قلوب ناشئتها خلق الشجاعة.

ولوسيلة التنافس والمكافأة أثر عظيم في التربية بوجه عام، ومن ذلك اكتساب الفضائل الخلقية.

أما الإيمان بالله وبمقاديره والإيمان باليوم الآخر فمن أعظم الوسائل لاكتساب فضائل الأخلاق، ومنها خلق الشجاعة، وذلك لأن الإيمان بالقدر خيره وشره من الله يورث القلوب طمأنينة تامة تجاه أشد المخاوف وأعتاها، فالمؤمن صادق الإيمان على يقين تام بأنه لن تصيبه مصيبة لم يسبق فيها قضاء من الله وقدر، ولن يستطيع أن يفلت من مصيبة سبق فيها قضاء من الله وقدر، ولذلك لما خرج الرسول بجمهور المسلمين إلى غزوة أحد، وانخزل عنه المنافقون، وقتل من قتل من المسلمين في هذه الغزوة، أخذ المنافقون يقولون: لو كان لنا من الأمر شيءٌ ما قتل من قتل في أحد، فنزل القرآن بالتربية الإيمانية في هذا المجال، معلنًا أنهم لو لم يخرجوا إلى الغزوة لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، فماتوا في الوقت نفسه الذي ماتوا فيه، فقال الله تعالى في سورة (آل عمران 3):

(يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154))

فهذه العقيدة الإيمانية تجعل القلوب في طمأنينة تامة، وتمدها بمدد عظيم من الشجاعة والثبات تجاه أشد المخاوف؛ لأنها تجعل النفوس مستعدة لتقبل المقادير خيرها وشرها رضى بما يختار الله وهذا يورث القلوب طمأنينة.

والإيمان باليوم الآخر وما أعد الله فيه للمجاهدين في سبيله من كرامة وثواب عظيم، من شأنه أن يعلق مطامع المؤمنين وآمالهم بما أعد الله لهم من أجر عظيم ونعيم مقيم في الدار الآخرة، وهذا يهون شأن الحياة الدنيا في قلوبهم ويخفف من حرصهم عليها، وبذلك يضمر جبنهم وتنمو شجاعتهم.

وقد استخدم الإسلام كل الوسائل التربوية التي تغذي في قلوب المسلمين ونفوسهم خلق الشجاعة.

فدفعهم إلى مواقع التدرب العملي، بالجهاد في سبيل الله لنشر دين الله، ومقارعة أعداء الله.

وأقنعهم بفوائد الشجاعة ومضار الجبن، ورغبهم بالثواب العظيم للمجاهدين في سبيل الله.

ووضع لهم القدوة الحسنة الحية في الشجاعة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، وقص عليهم قصص بطولات الأنبياء والمرسلين، ومنها شجاعة إبراهيم عليه السلام، وشجاعة داوود عليه السلام.

وكانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة مشحونة بالتدريب العملي للمسلمين على خلق الشجاعة، فكان يدفع أصحابه باستمرار إلى مواقف البسالة والإقدام، حتى اكتسبوا من خلق الشجاعة ما فاقوا به كل الشجعان، وقصص بطولات الرسول وأصحابه في هذه الحقبة كثيرة.

وكانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة حياة صعبة جدًّا، فيها مقاساة شديدة ومعاناة بالغة، مما كانوا يلقونه من المشركين، وكانوا يتلقون كل ذلك بصبر وشجاعة. وكانت الشجاعة الأدبية التي تعتمد على قول الحق في كل المواقف هي السمة المميزة لهذه الفترة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه، وقصص بطولات الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هذه الحقبة كثيرة.

واستمر التدريب العملي في المسلمين بعد الرسول صلى الله عليه وسلم طوال العصور الإسلامية الذهبية، التي كانت مملوءة بأعمال الجهاد في سبيل الله، بالقول وبالأموال وبالأ