موسوعةالأخلاق الإسلامية-ظواهر خلقية لأكثر من أساسٍ خلقي( الترغيب بالجهاد في سبيل الله لتغذية قلوب المؤمنين بالشجاعة)

الوصف
ظواهر خلقية لأكثر من أساسٍ خلقي
الترغيب بالجهاد في سبيل الله لتغذية قلوب المؤمنين بالشجاعة
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل العاشر: ظواهر خلقية لأكثر من أساسٍ خلقي >>
الترغيب بالجهاد في سبيل الله لتغذية قلوب المؤمنين بالشجاعة:
وقد استخدمت التربية الإسلامية الترغيب بالثواب العظيم عند الله، لتغذية قلوب المؤمنين بالشجاعة العظيمة، كلما كانت الشجاعة في سبيل الله، ولإعلاء كلمة الله ونشر دينه وإقامة العدل الذي أمر به.
كما وعد الله بنصر أوليائه الصادقين القائمين بما أوجب عليهم في القتال في سبيله وفي الإعداد له، على أعدائه.
وجاء هذا الترغيب بصور عديدة وأشكالٍ متنوعة.
فالترغيب كان بثوابين: ثواب مؤجل، وثواب معجل.
أما الثواب المؤجل: فهو ما أعده الله للمجاهدين في سبيله من نعيم مقيم، وأجر عظيم، وكرامة فضلى، ومنزلة مثلى، وهم يستقبلون سلسلة هذه الحسنيات منذ نيلهم الشهادة، وتستمر معهم ينعمون بخيراتها الحسان حتى يدخلوا الجنة ويرتقوا في منازل الشهداء.
وأما الثواب المعجل: فهو الوعد بأن يهبهم الله التأييد والنصر، إذا هم نصروا دينه وأخلصوا له، وأدوا الشروط والواجبات التي أمر بها في الجهاد وقبله.
وبعد النصر تكون لهم الغنائم، ويكون لهم السلطان القوي في الأرض، وتفتح لهم أبواب الممالك وتخضع لهم عروشها.
ونصوص الترغيب في هذا كثيرة، منها النصوص التالية:
(أ) روى البخاري ومسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لغدوة في سبيل الله أو روحةٌ خير من الدنيا وما فيها.
الغدوة: الخروج في أول النهار.
الروحة: السير في العشي.
فثواب الغدوة في سبيل الله أو الروحة في سبيل الله، خيرٌ للمجاهد من الدنيا كلها وما فيها، لو سيقت إليه.
(ب) وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها.
الرباط: هو حراسة الثغور حذر هجمات الأعداء على حين غرة. فثواب رباط يوم واحد من أعمال الجهاد في سبيل الله خير للمرابط من الدنيا وما عليها، أي لو سيقت له.
(ج) وروى البخاري ومسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ما من أحدٍ يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا، وله ما في الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة.
فهو لما يرى ويشاهد بنفسه من الكرامة العظيمة التي أعدها الله للشهداء الذين جاهدوا في سبيله مخلصين، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل في سبيل الله عشر مرات.
(د) وروى مسلم عن مسروق قال: سألنا عبد الله بن مسعودٍ عن هذه الآية:( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) الآية 169 من سورة آل عمران. فقال ابن مسعود: أما إنا قد سألنا عن ذلك، (أي سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) فقال:
أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب، نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تُركوا.
وهذا يكون لهم بعد الشهادة وقبل يوم القيامة، لذلك فهم أحياء عند ربهم يرزقون.
فكم في هذا من ترغيب بالجهاد في سبيل الله والقتال حتى الاستشهاد.
(هـ) وروى مسلم عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله يكفر عني خطاياي؟
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
نعم، إن قتلت في سبيل الله وأنت صابرٌ محتسب، مقبل غير مدبر.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كيف قلت؟
فقال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أيكفر عني خطاياي؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
نعم، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إلا الدين، فإن جبريل قال لي ذلك.
محتسبٌ: أي محتسب أجره وثوابه عند الله، غير ناظر إلى مطامع دنيوية، ومصالح مادية معجلة لنفسه أو لذويه مما لا مرضاة لله فيه.
إلا الدين: أي إن الله تبارك وتعالى يكفر بالاستشهاد في سبيله كل الخطايا باستثناء الحقوق التي هي للعباد، فإنها ديون في أعناق من هي عليهم، لا تكفر إلا بإرضاء أصحاب الحقوق أنفسهم.
وهذا ترغيب عظيم ومشجع جسيم أن يرى المسلم أن الاستشهاد في سبيل الله يكفر عنه خطاياه، ويدخله الجنة بفضل الله.
(و) وروى مسلم عن أنس قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
قال عمير بن الحمام: بخٍ بخٍ.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ما يحملك على قولك بخٍ بخٍ.
قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها.
قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فإنك من أهلها.
قال أنس: فأخرج تمراتٍ من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي إنها لحياة طويلة. قال: فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتل حتى قتل.
فرغبة عمير بن الحمام رضي الله عنه بما أعد الله للشهداء في سبيله في الجنة دار النعيم، قذفت في قلبه حب الموت على مقدار ما كان من قبلها يحب الحياة، ومنحته شجاعة لا يوقف إقدامها واستبسالها إلا أن يقع صريعًا شهيدًا.
وكما قذفت هذه الرغبة الشجاعة النادرة في قلوب المؤمنين المجاهدين في سبيل الله، قذفت الصبر والرضى والتسليم في قلوب أمهاتهم وزوجاتهم، وبنيهم وبناتهم وسائر ذويهم.
(ز) وروى البخاري عن أنس أن الربيع بنت البراء -وهي أم حارثة بن سراقة- أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ألا تحدثني عن حارثة -وكان قتل يوم بدر أصابه سهمٌ غربٌ- السهم الغرب: هو السهم الذي لا يعرف راميه. فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء، فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم:
يا أم حارثة، إنها جنانٌ في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى.
فما أعجب أثر الإيمان وأثر الترغيب بما أعد الله للمجاهدين في سبيله من أجر.
(ح) وروى مسلم أن أبا موسى الأشعري حدث فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف
فقام رجلٌ رث الهيئة فقال: يا أبا موسى أنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟ قال أبو موسى: نعم. فرجع الرجل إلى أصحابه فقال: أقرأ عليكم السلام، ثم كسر جفن سيفه فألقاه، ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرب به حتى قتل.
جفن السيف: غلافه.
(ط) وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولًا وجبت له الجنة
، فعجب لها أبو سعيد فقال: أعدها علي يا رسول الله، فأعادها عليه، ثم قال:
وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض.
قال أبو سعيد: وما هي يا رسول الله؟ قال:
الجهاد في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله.
وسبب هذا الأجر العظيم للمجاهد في سبيل الله أن الجهاد وسيلة إلى نشر دين الله، وإقامة العدل في الأرض، ومقاومة الظلم والظالمين، وبناء الحضارة الإسلامية المجيدة، ورد المعتدين وطرد الغاصبين، ولأن المجاهد في سبيل الله يبذل أغلى شيء لديه وهو حياته، فإذا أضاف إلى ذلك بذل ماله فقد جمع الحسنيين.
ولذلك كان الجهاد في سبيل الله أفضل بكثير من العبادات الخاصة التي يملأ العابد بها أوقاته معتزلًا بعبادته عن الناس.
(ي) وروى الترمذي بإسناد حسن عن أبي هريرة قال: مر رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعبٍ فيه عيينةٌ عيينة: أي عين ماء صغيرة. من ماءٍ عذبة، فأعجبته فقال: لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
لا تفعل، فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته سبعين عامًا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة، اغزوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة.
فواق الناقة: هو مقدار ما بين الحلبتين من زمن، وذلك لأن الناقة تحلب ثم تترك مدة غير طويلة ليجتمع اللبن ثم تحلب.
(ك) وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، فمر رجل بغار فيه شيءٌ من ماءٍ وبقل، فحدث نفسه بأن يقيم فيه ويتخلى من الدنيا، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة، والذي نفس محمد بيده، لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها، ولمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة.
ولمقام أحدكم في الصف: أي في صف القتال في سبيل الله.
(ل) وروى أبو داود عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه:
إنه لما أصيب إخوانكم يوم أحد، جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر، ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقةٍ في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقبلهم قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أننا أحياءٌ في الجنة، لئلا يزهدوا في الجنة ولا ينكلوا عند الحرب؟ فقال الله تعالى: "أنا أبلغهم عنكم"، فأنزل الله تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران 169).
فحياة الشهداء لها صفات وظروف أخرى غير صفات حياتنا الدنيوية وظروفها، ولا علاقة لها بالأجساد الدنيوية، كما دل عليها هذا الحديث، والحديث