موسوعةالأخلاق الإسلامية-نصوص مشروحة تشتمل على جوانب أخلاقية (5- في أداء الواجب الرباني وعلو الهمة وعزة النفس بالله والصبر والرضى بمقادير الله)

الوصف
نصوص مشروحة تشتمل على جوانب أخلاقية
5- في أداء الواجب الرباني وعلو الهمة وعزة النفس بالله والصبر والرضى بمقادير الله
5- في أداء الواجب الرباني وعلو الهمة وعزة النفس بالله والصبر والرضى بمقادير الله
عن عبد الله بن عباس قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا فقال:
يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف.
(رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح).
وفي رواية عند غير الترمذي:
احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا.
هذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام، وهو يشتمل على كليات كبرى من كليات العقيدة والأخلاق الإسلامية:
1- ففيه أولًا جانب تربوي مهم جدًّا، وهو يتمثل باهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بتعليم الصغار والغلمان الأصول الكبرى للعقيدة والأخلاق. ويتمثل أيضًا باستغلاله صلوات الله عليه كل فرصة سانحة للتعليم والتربية.
فهذا عبد الله بن عباس ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم غلام لم يبلغ الحلم، يكون رديفًا ذات يوم خلف الرسول على دابة يركبانها في طريق، فلا يدع الرسول الفرصة تمر دون أن يوجه لابن عمه الغلام درسًا عظيمًا من دروس العقيدة والأخلاق، ويخاطبه بقوله:
يا غلام، إني أعلمك كلمات.
2- الكلمة الأولى في هذا التعليم النبوي:
احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك.
هذه الكلمة من جوامع الكلم في التوجيه الخلقي، الذي يصلح علاقة الإنسان بخالقه، والمقترن بالتنبيه على الفائدة والثمرة التي يجنيها الإنسان المسلم من التزامه مضمون التوجيه.
والمراد من مطالبة المسلم بأن يحفظ الله، أن يحفظ حقوق الله، فيؤديها حق أدائها، ولا يهملها، ولا يخونها، ويكون ذلك بحفظ أوامر الله ونواهيه وبحسن مراقبته والتزام طاعته والبعد عن معصيته، مع الثناء عليه بما هو أهله، وشكره بالعبادة والتقرب والزلفى.
وهذا الحفظ يمثل أعظم فضيلة خلقية يعامل بها الإنسان ربه. ومن حفظ الله على هذا الوجه حفظه الله من كل سوء، وحفظ له ما يستحقه من ثواب عظيم، أعده للمحسنين بفضله الكريم، ومن كان يرجو ثواب الله العظيم فإنه لا بد أن يندفع بصدق إلى حفظ حقوق الله عليه وابتغاء مرضاته.
فمن حفظ الله وجد الله أمامه في كل أمرٍ من أموره، معينًا وناصرًا، وموفقًا، وممدًا بما لا يحصى من العطايا والهبات. ومن حفظ الله وجد الله أمامه عند كل أزمة يتعرض لها في حياته، ووجده تجاهه مؤنسًا في الوحشة، وصاحبًا في الوحدة، وأهلًا في الغربة.
وتأكيد هذه المعاني المفهومة ضمنًا قد جاء في قوله صلى الله عليه وسلم:
تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة
أي تعرف إليه بالتزام طاعته والإحسان بالتقرب إليه، يعرفك في شدتك بالمعونة والمساعدة ورفع الشدة وتفريج الكرب.
3- والكلمة الثانية في هذا التعليم النبوي:
إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله.
وفي هذه الكلمة تأصيل لأسس اعتقادية كبرى، فالسؤال -وهو الطلب من القوى الغيبية- لا يجوز أن يوجه إلا لله وحده؛ لأنه هو وحده القادر على إجابة السؤال، والاستعانة بالقوى الغيبية لا يجوز أن تكون إلا بالله؛ لأنه هو وحده القادر على منح المعونة الحقيقية.
وتوجيه السؤال لغير الله تعالى، وطلب الاستعانة من غيره، كل منهما شرك بالله، وما كان لمؤمن أن يفعل شيئًا من ذلك، فالشرك بالله جحود لا يفعله ذو خلق كريم، وسلوك مستقيم. فمن كان ذا خلق كريم حقًا لم يجحد بالله فلم يشرك به أحدًا، فإذا سأل لم يسأل غيره، وإذا استعان لم يستعن إلا به.
وترسيخًا لهذه العقيدة أبان الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا نافع ولا ضار إلا الله، فقال لابن عباس:
واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف.
وفي هذا البيان الكاشف لحقيقة مجريات المقادير قطعٌ لأسباب القلوب من المخلوقين، وربط لها بالخالق الذي بيده مقاليد كل شيءٍ وهو على كل شيء قدير.
ونظير هذا البيان ما جاء في الرواية الثانية:
واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك.
أي إن مقادير الله وأقضيته نافذة لا محالة، فلو استطاع الإنسان استعادة ما مضى من الزمن لم يستطع أن يدفع المقادير التي علم الله أنها ستقع، فليقطع من الناس كلهم أسباب قلبه، وليربطها بالله وحده لا شريك له.
وفي هذا البيان تربية على خلق الصبر والرضى بقضاء الله وقدره، فمن أيقن أن مقادير الله نافذة لا محالة أعدّ نفسه لاستقبالها بصبر ورضى.
4- والكلمة الثالثة في هذا التعليم النبوي:
واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا.
فأعطى الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا البيان السنن العامة للمقادير الربانية:
فالنصر مقترن بالصبر، وفي بيان هذه السنة الربانية ترغيب عظيم بخلق الصبر كلما كان النصر غاية منشودة، ولا بد مع الصبر من تحقق الشروط الأخرى لاستحقاق النصر.
والفرج مقترن بالكرب، وفي بيان هذه السنة الربانية ترغيب أيضًا بخلق الصبر كلما اشتد الكرب على الإنسان.
واليسر يأتي بعد العسر، وفي بيان هذه السنة العامة للمقادير الربانية ترغيب أيضًا بخلق الصبر كلما ضاقت حلقات العسر على الإنسان، فما بعد العسر إلا اليسر.
هذه سنن ربانية لم يمتحنها مؤمن بالله آمل بها إلا وجدها كذلك.
وهكذا اشتمل هذا الحديث على ما يلي:
(أ) التوجيه للمحافظة على أداء الواجب الرباني، وهو رأس الفضائل الخلقية.
(ب) التوجيه لتعليق القلب في كل المطالب بالله تعالى، وهو أعلى درجة في خلق علو الهمة وعزة النفس بالله.
(ج) التوجيه للرضى بقضاء الله وقدره وصرف القلب عما سوى الله تعالى، وهذا من أرفع درجات مكارم الأخلاق.
(د) التوجيه لخلق الصبر، والصبر من الأصول الكبرى للمكارم الخلقية.